خاص الموقع

دول الخليج في زمن الكورونا: من يملك غذاءه يضمن بقاءه

في 2020/05/19

مبارك الفقيه- راصد الخليج-

بعيداً عن التنظير والبحث والتحليل والانسياق وراء نظرية المؤامرات الدولية، وبغض النظر عن تبادل الاتهامات وتراشق التصريحات النارية بين الشرق والغرب، تهرّباً من تحمّل المسؤولية أو تبريراً لتقصير في المبادرة أو المشاركة في المواجهة، يفرض الجنرال covid-19 أو فيروس كورونا حضوره واجتياحه المنتشر في كل أصقاع الأرض دون أن يجرؤ أحد إلى الآن، من مخترعين وعلماء وأطباء ومؤسسات عملاقة ودولاً عظمى ومتطورةّ، على ادّعاء نجاحه في هزيمة هذا الكيان الميّت المميت، أو حتى تهديد وجوده أو التأثير عليه، والأزمة الاقتصادية العالمية التي نشبت من جرّاء تفشّي الوباء ضربت اقتصاد دول العالم كلّها، وبينها دول الخليج بطبيعة الحال.

خمسة أشهر على بدء الأزمة وتفشّي كورونا، في ظل تعثّر مستمر بإيجاد علاج أو لقاح ناجح له، جعلت أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية ينزوي داخل المنازل، وسط إجراءات عزلية للأفراد أخذت بالحياة العامة إلى حالة جمود قسري وتعطيل اضطراري، وتوقّف شبه شامل لكل حركة الإنتاج الغذائي في العالم، وبالتالي لم يعد الحرج مقتصراً على الجانب الطبي، فالاستهلاك الذي كان يعتمد في الفترة الماضية على المخزونات المحفوظة بدأ يهدّد البشر بالوصول إلى الإنذار الأحمر، فهذه المخزونات لن تكفي أكثر من شهرين وفق ما حذّر منه خبراء غذاء عالميون، وتتفاوت المدة بحسب النظام الغذائي المتبع في كل دولة، ولكن ديمومة توفير احتياجات الناس، وخاصة من الطعام والشراب، باتت هي الأكثر ضرورة وأولوية بالتوازي مع ضرورة العلاج والطبابة وتوفير الأمن الصحي.

ومع تزايد تسجيل إصابات كورونا في دول الخليج، تتركّز عيون الحكام والمسؤولين على اختلاف مستوياتهم ومجالات عملهم على تفقّد المخزون الغذائي في بلدانهم، والتأكد من إمكانيات الاكتفاء الذاتي في تأمين الأغذية الضرورية لتلافي وقوع أزمة معيشية - اجتماعية قد تتجاوز بتأثيراتها السلبية على الاستقرار الداخلي تلك التي يتركها فيروس كورونا، وهنا لا يعود الحفاظ على الاقتصاد واستثمار النفط وديمومة التقدّم التكنولوجي محور القضية، بل التماسك البشري في النسيج الاجتماعي الذي قد يصل - مع تناقص الغذاء وقلة توافره وصولاً إلى فقدانه - إلى مرحلة النكوص والتقهقر الانحداري الحاد، فيدخل الناس في النقطة الحرجة، ويقفون أمام محطات الاختيار الصعبة وتتحقق معادلة "البقاء للأقوى"، وهذا يعني بعبارة أخرى "سيادة شريعة الغاب".

لا أتحدث هنا عن سيناريو فيلم خيالي أو هوليوودي - على الرغم من أن معظم أفلام هوليوود تنبّأت بما يحصل اليوم - بل أتحدّث عن واقع بدأ يعلو وقع صداه في أروقة القرار في دول الخليج، والتي لا تزال بمعظمها بعيدة عن اعتماد روزنامة إنتاج غذائي يؤمن الاكتفاء الذاتي، وهو ما يجعل الأمن الغذائي - وهو من أهمّ مرتكزات الأمن القومي لأي دولة - يشكّل أزمة حقيقية؛ فاستقرار هذا الأمن يقاس نسبةً لقدرة الدولة على تأمين احتياجات سكانها من الغذاء الرئيسي لا سيما خلال الأزمات والحروب والكوارث؛ وعلى الرغم من توافر القدرات والإمكانيات والعناصر الأساسية المطلوبة للإنتاج الزراعي، إلا أن دول الخليج لم تصل حتى اليوم إلى تبنّي سياسة زراعية ثابتة، فهي تعتمد بنسبة تتراوح بين 70 و90% على استيراد حاجاتها الغذائية من الخارج، ليس فقط لتأمين الغذاء بل أيضاً لتوفير المنتجات الصناعية التي تعتمد على الزراعة، وكل ذلك مرتبط بالتوازن التجاري والمالي بين الدول فضلاً عن العلاقات السياسية.

ولا يخفى أن دول الخليج، كما معظم دول المنطقة العربية والإسلامية، تشكّل سوقاً هائلة للاستهلاك الغذائي، إلا أن الحظر الناتج عن تفشي الوباء دفع عدداً من الدول المنتجة للغذاء إلى وقف إمدادتها أو إلى رفع أسعارها، في حين تتوجّه دول أخرى إلى وقف تصديرها للمواد الغذائية، خصوصاً بعدما تبيّن أن أزمة الكورونا مرجحة للاستمرار لوقت أطول بكثير مما هو متوقّع؛ والدول التي لم تأخذ بعد قرارها بالانفتاح الاقتصادي، ستتّجه اضطرارياً لإعادة ضخ الحركة في الزراعة بهدف إعادة التوازن إلى عجلة الطلب العالمية والحيلولة دون وقوع المحظور الغذائي والاجتماعي، ولذا تقدّمت دولة الكويت في مطلع أبريل / نيسان بمقترح إنشاء "شبكة أمن غذائي" موحّدة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، على غرار شبكة الربط الكهربائي، لضمان تأمين الإمدادات الغذائية الكافية، وتلبية الاحتياجات الغذائية وسد نقص الغذاء الأساسي في أوقات الأزمات.

تتصدّر دولة قطر قائمة الدول العربية في مؤشرات تحقيق الأمن الغذائي، وتحتلّ المركز 13 عالمياً بحسب مؤشر الأمن الغذائي العالمي الصادر لعام 2020، ولكن قد تكون هذه الأرقام مطمئنة لدولة واحدة، فمنذ عقود تبدي دول مجلس التعاون تخوفها من تدني مستويات الأمن الغذائي، والحديث عن أزمة غذائية قد تتهدّد دول الخليج لا يأتي من فراغ، وفق تقدير وكالة Bloomberg الأمريكية، بل من استشراف واقع بدأ فعلياً في المملكة السعودية، بحيث ظهرت الأزمة مبكراً بعد تداول معلومات عن وجود نقص في بعض المواد الغذائية الأساسية ما دفع وزارة التجارة السعودية إلى التأكيد أن المملكة لديها أكبر كمية مخزون غذائي في الشرق الأوسط!! ولكن ما هي حقيقة المخزون الاستراتيجي للدول الخليجية كلها لا سيما مع مخاطر الشحّ في الطاقة المائية الضرورية للإنتاج الزراعي؟! وقد يتوفّر المال ولكن ما نفعه في حال فقدان الغذاء؟! وهل ستبقى الدول المنتجة – وهي التي ترزح تحت عبء أزمة الوباء وتحتفظ بغذائها كمخزون استراتيجي لمواجهة الأزمة - قابلة لإمدادنا بالغذاء حتى لو أغرقناها بالنفط والغاز؟!