خاص الموقع

مصالحة خاسرة

في 2020/12/31

(فؤاد السحيباني/ راصد الخليج)

تقِف منطقة الخليج، متفرّدة وحدها، كبؤرة أزمات مزمنة في عالم اليوم، تحمل نظمها الحاكمة، وبقدر أكبر شعوبها، الكثير جدًا من الشّك في المستقبل القريب، لا يدري نظام حاكم كيف يكون شكل هذا المستقبل، أو موقع دولته فيه من المعادلة، فاعل أم مفعول به، أم مجرّد ضيف على خشبة مسرح السياسة العالمي المتقلّب بشدّة.

المنطقة الثريّة جدًا، والحسّاسة جدًا جدًا، سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، لا ترى لنفسها مكانًا في أي حاضر قابل للحياة، فضلًا عن مستقبل لم تمتلك أدواته، تنتمي نظمها الحاكمة إلى ماضٍ فات وقته، لكنّه لا يريد أن يذهب، ومستقبل مطلوب بشدّة لكنّه يرفض المجيء بعد، وحاضر تلوّن بالدّم والصراعات والشكوك القاتلة.

من بين كل التّناقضات التي تعصف أو تكاد بدول الخليج، التي تنتمي لعالم عربي ممزّق هو الآخر، يخرج حديث المصالحة الوشيك وكأنّه طرفة لا تُضحك أحدًا، أو أُحجية لا سبيل لحلها، من يصالح من، ومن يدفع فاتورة الوضع الجديد، والذي انغمست فيه قوى إقليمية مستجدة، وعالمية موجودة بالفعل كجزء أصيل من المشهد.

الواقع والحقيقة المرّة تقول أنّ المملكة السعودية فقدت الجزء الأكبر من قوّتها الناعمة، وانحسر تأثيرها عربيًا وإسلاميًا، وفي أي طرح لتصفية الخلاف مع قطر ستخسر أضعاف ما خسرته فعلًا، وهو الطّرح الأقرب للحدوث مع قدوم إدارة أميركية جديدة بحقيبة مصالح مختلفة كل الإختلاف عن إدارة المنتهية ولايته دونالد ترمب.

بَداية، فإن السياسة السعودية ومنذ تأسيس الدولة في ثلاثينيات القرن الماضي، رسمت لها دورًا كبيرًا، اعتمد على الموقع المعزول الفريد، والأهمية الدينية بقداستها العميقة، ثمّ تولّت فوائض أموال البترول وحقبة البناء الضخمة تطويع أنظمة ودول عربية كبيرة، وزنًا وتاريخًا، وجعلها تتماهى وتسير في الفلك السعودي.

حدث هذا بدون سلاح أو صراع، في أغلب الأحيان، صنع الذهب اللّماع والقدرة على التجييش باسم الإسلام والطائفية ما تعجز الجيوش عن فعله أو تثبيته، وانتهى عقد التسعينات، وجاءت الألفية الجديدة وقد أصبحت للسياسة قوّتها التي تتجاوز بكثير القدرات السعودية المادية المنظورة.

كان الخليج كوحدة جغرافية متقاربة جزءاً من الفضاء السعودي الخالص، وزاد مجلس التّعاون الخليجي، بوحداته السياسية الست، من تأثير المملكة في العالمين العربي والإسلامي، وتولّت الإجتماعات السرية مهمة فرض الرؤية السعودية وتصدير وجهة نظر الرياض، ومنحها شرعية قلّ نظيرها في العالم العربي، حتى في أوقات الأزمات العنيفة.

وقتذاك، كانت السياسة السعودية حريصة على ستر المطالب والرغبات بالإدعاء، سواء الديني أو الأخلاقي، كان التّناغم بين الرؤية والحق حرفيًا وجيدًا، مهما كان بعد الشقة بين الأمرين، في حرب الخليج الثانية حشدت الجيوش العربية والإسلامية وتلك القادمة من الأطلسي للدفاع عن بلد المقدّسات، وصونًا لأقدس الأماكن الإسلامية، ولم يكن يجرؤ أحد على الحديث عن مؤامرة لكسر ذراع العراق، أو إعادته إلى حجم مناسب لجيرانه.

أجادت الطبقة السياسية المتمكّنة في الرياض طلاء القوة القاهرة بمزيج من الوهم المتوهج، والحق المتخيل، وتحت ظلال هذه التركيبة ظنّت السعودية إنها أصبحت الحليف الأول للغرب كلّه في العالم العربي، وليس فقط شريك واشنطن المفضل بالشرق الأوسط.

الرغبة المتوحشة في التّفرد بالقرار الخليجي والعربي وحده كان فاتحة السقوط، بالتزامن مع فشل أسطوري في التخطيط، وعمى كامل في الرؤية، بالتزامن مع خلاف توتر بلا دواعٍ واجبة، تحوّل في بعض فصوله إلى جنون سيطر على مفاصل الحكم، وعكسته الأبواق الإعلامية الساعية للرضا السامي، وفقط.

حديث المصالحة الخليجية، الذي يوشك الحليف الأميركي على فرضه فرضًا، سينزع ما تبقى من أوراق التوت عن القوّة السعودية والسياسة السعودية، ويكنس ما يزال حاضرًا من الهيبة والمكانة.

إذا قبلت الرياض بالمصالحة، فإنّها تكون حرثت البحر، وضحّت بمصداقيتها طوال السنوات الماضية، أمام مذبح الرّغبة الأميركية، التي ستكون حينها "أمرًا" من راعِ لا نصيحة من دولة كانت حليفًا، وإذا رفضت فإنّ القيادة الحالية تضع مستقبلها كله في مهب ريح، مع وضع القوّة العظمى الراغب في التهدئة ولملمة صراعات ترمب ونزوات أصدقائه.

لم يفلح محمد بن سلمان، باختصار، في إدارة خلافاته بمزيج من الحكمة والتّرهيب، ولجأ للجموح والعنف، في ظلّ عدم امتلاكه إمكانيات عمل حقيقي ضد دولة تعدّ أقرب لمحمية خاصة وشوكة مغروسة على ضفاف الخليج.

الصراع بين السعودية وقطر كان معركة فرض إرادة، والمثير للغضب والإمتعاض أنّ كلّ أوراق القوّة السعودية الموروثة تهاوت، ببساطة، أمام حقائق القوّة الفعلية اليوم، وحدود تحريكها والأضواء الحمراء على استخدامها، ولم يكن الغرب في أي وقت يمنح العطايا مجّانًا، وينتظر الدّعوات أو الشكر، كان ولا يزال يدير المنطقة وفقًا لمصالحه العليا في اقتصادها وموقعها وموقفها من صراعه العالمي كله، وهو على وشك كتابة فصل جديد خسرته المملكة قبل أن يَبدأ.