ملفات » رؤية المملكة السعودية 2030

رؤية 2030.. ثمّ كان بعد ذلك خراب

في 2022/01/03

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

للأرقام قوّتها وحقائقها التي تعلو على ما عداها، وفي المجتمعات العربية بخصوصيّتها وتاريخها الغارق في التستّر على الحقائق والنّتائج، وإعلام امتهن التّضليل والزيف، يظهر حكم الأرقام جليًا فاضحًا على السياسات والقرارات، كاشفًا مدى كفاءة الإدارة أو غرقها في الفشل، وبالتالي هي السبيل الأوحد أمام تكوين رأي بات في مسيرة السياسة أو في خيارات الطبقة الحاكمة كلها.

وليست مناقشة الاقتصاد، في الحالة العربية كلّها وحالة المملكة السعودية خصوصًا، هروبًا من الحديث في السياسة، إذ أنّ السياسة بشكلٍ عام هي وجه العملة الآخر للاقتصاد في ظروفنا الحالية/البائسة، والذي من المفترض أن يكون توصيف وتشخيص ظروف البلد، وتحديد الأولويات الوطنية، طرحًا ومشاركة ومتابعة، والأهم ضمان حشد قطاعات أوسع من الناس للتّصدي ومجابهة التّحديّات هو الهدف الأوّل مجتمعيًا، هذا إن توافرت الأرضية والأهلية والتعقّل لدى النظام الحاكم، لتحقيق ما هو مطلوب وطنيًا، أو ما يتوجّب تحقيقه قبل غيره.

على هذا الأساس من أهمية الاقتصاد التي تعلو كل ما عداها في هذه اللّحظة، فإنّ الملك سلمان اختار الظهور أخيرًا، في آخر أيام العام المنقضي 2021، ليوجّه رسالة دعم تحمّل من الدّلالات أكثر بكثير ممّا تشي به كلماتها المقتضبة، والتي رسمت مستقبل السياسة الخارجية للملكة، وأطر عملية الإصلاح الاقتصادي الجارية في 3 دقائق ونيف، خلال افتتاح أعمال مجلس الشورى.

وقبل الكلمة الجديدة، لم يظهر الملك سلمان -85 عامًا- علنًا منذ ما يزيد عن 6 أشهر كاملة، حين استقبل وزير الخارجية البريطاني الأسبق دومينيك راب، وتولى ولي العهد استضافة وافتتاح والمشاركة في أعمال القمّة الخليجيّة التي استضافتها الرياض مؤخرًا، وكان لافتًا أنّ الملك قصد بكلّ حرف ينطقه ما يعزّز من سلطات الأمير، ويجعل من طموحاته باستلام السلطة أمرًا مسلمًا به، هكذا كان شكل الكلمة.

أمّا عن فحواها، فقد أكّد الملك استمرار ولي عهده في قيادة ما يعرف بـ "رؤية 2030"، ويدعم ما قال إنّه "إنشاء وإطلاق عدد من المشاريع ذات الرؤية المستقبلية التي تدعم أنظمتها الاستدامة والازدهار، والإبتكار، وقيادة الأعمال، ممّا يوفّر فرص العمل ويحقّق عوائد ضخمةً للنّاتج المحلي السعودي".

وهذا بالضبط ما كشفته رؤية المملكة عند إطلاقها، واستمرّت كلّ البيانات الرسمية تؤكّده منذ 6 سنوات، حين وضع الأمير محمد بن سلمان كلّ رهانه على تقديم نفسه للمجتمع السعودي عبر بوابة مجدّد الدولة وصانع نهضتها، بالانتقال من الاعتماد على النّفط كمصدر وحيد للإيرادات إلى الاعتماد على الصناعة وغيرها من القطاعات، والتي تعني بالضرورة الانتقال إلى مجتمع جديد بالكامل، قادر على منح المملكة مكانها في المستقبل ضمن أكبر الاقتصاديات العالمية واستمرارها في صدارة الاقتصاديات العربية.

لكن التمنيّات لم تحدث على أرض الواقع، ولم تترجم المشروعات الضخمة التي أهدرت مئات المليارات من الريالات شيئاً على الإطلاق، بل ويعاني المجتمع الأمرين في ظلّ فيروس التضخم المنفلت، والذي زاده التدخّل المُرتبك للهيئات الحكومية اشتعالًا، وساعد العجز السنوي المستمر والمزمن في اقتصاد المملكة على تنامي الأزمة، وعلى زيادة أثرها على المجتمع والدّخل الحقيقي للمواطن، والفشل في توفير فرص عمل تدعم الحقّ الإنساني للمواطن السعودي في صناعة فرصته في الحياة.

وتجلّت أزمة المملكة الحقيقيّة خلال الشتاء الحالي، البارد جدًا، إذ دشّنت عدد من المؤسّسات الكبرى والبنوك وغيرها حملات للتّبرع، وهو ما نُعانيه مستجدًا في المملكة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، كأمر غير مسبوق ناتج عن زيادة نسبة الفقراء في المملكة، والعجز عن تأمين الحدّ الأدنى اللازم من الدخل للعيش.

وكلّ الإحصائيات المرتبطة بنسبة الفقر في المملكة غير رسمية، إذ من المتعذّر البحث بشفافية في هذا الملف أو الحصول على إجابات واضحة، لكن عدد من الجهات تتّفق على أنّ عدد الفقراء من المواطنين تجاوز 18% من إجمالي السكان، ما يقدّر عددهم بنحو 3 ملايين مواطن، وتشمل العاجزين عن العمل أو العاطلين والمستفيدين من هبات التّضامن الاجتماعي وأصحاب الأجور المتدنيّة، وغيرهم من الفئات العاجزة عن توفير قوت يومها.

وتتفاقم أزمة الفقر مع سوء توزيع الدخول بين المواطنين، إذ تعدّ المملكة –والمنطقة العربية كلّها- الأسوأ في العالم من حيث سوء توزيع الثّروات وتركزّها الشديد بين فئة تبلغ أقل من 1% من السكان، ومع زيادة تركيز الثروة بين الأقلية، تزداد مساحة الفقر اتساعًا، وترتفع نسبته عمقًا في المجتمع السعودي.

كان من المنتظر وفقًا للقفزة السعرية الهائلة في النفط خلال الشهور الأخيرة، والتي لن تمتد بطبيعة الأحوال لأكثر من عام، استغلال التدفّقات الضّخمة في إقامة مشروعات صناعية على امتداد مدن المملكة، عوضًا عن اللّجوء إلى إقامة منتجعات سياحية، تبحث عن الرواد الأغنى لتغطية نفقاتها، والتوجّه بشكلٍ مباشر إلى هيكلة قطاعات الضمان الاجتماعي، كإجراء لازم لإنشاء شبكة حماية للفقراء ومن يعانون في سبيل تدبّر فرصهم في الحياة الكريمة.

وقبل الخوض في أيّة مناقشات أو وضع تصوّر لحلول أزمة المملكة الاقتصادية، فإنّ التّذكير ضروري بأنّ العقد الاجتماعي الذي جرى تطبيقه منذ نشأة المملكة بشكلها الحالي، قد فطن إلى حالة الفقر المتفشيّة بين عموم الناس، واستقرّ على ضمان حدّ ما من الدّعم يضمن حياة جيّدة للغالبية العظمى من المواطنين، وإن اختلفت درجة التطبيق بين الملوك من أبناء الملك المؤسّس عبد العزيز، لكن المشترك الأوّل والأساس بينهم أنّ كلّ فترات الحكم كانت تشهد وضع قضية توفير الحدّ المقبول والجيّد من سبل الحياة هدفًا منوطًا برأس السّلطة، وليس أقلّ.

وفي ظلّ ما يدعيه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، من انخراطه في برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي، بوصاية معلنة ومرحّب بها من أغلب مؤسّسات التّمويل والتّقييم الدولية، فإنّ ما تحقّق بالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين يكفي ويفيض للحكم، ويضمن رسم صورة واضحة لواقع الاقتصاد السعودي، اليوم، وبشكلٍ متجرّد.