ثقافة » تربية وتعليم

أحلام الرّياض في عيد التأسيس

في 2022/02/18

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

على مفرق الأيام والتّواريخ، واللّحظات التّاريخيّة، تقف الأمَم الحيّة باحثة عن كلّ ما يستنهض الهِمَم، ويشحذ الأفكار، نحو طموحات عظيمة إلى أزمان جديدة بالكامل، تستلهم الماضي لكنّها في الوقت ذاته لا تقع فريسة للماضي، تبحث عن المستقبل في الحاضر، وابتداءً منه لا بمخاصمة هذا الحاضر أو القفز على معطياته، حينها يحقّق للأمَم والمجتمعات أن تحلم.

والماضي كلّه في حياة الشعوب مكمن ثروة وتجربة وخبرة تاريخيّة، تتراكم على مرّ الأجيال والسّنون لترسم حدود شخصية الوطن والمجتمع، وتحدّد خصوصيته وتصبح المثال الأرقى على طرق تنميته ودفعه إلى الأمام خطوات أو قفزات، بحسب من يقود ويستطيع وينجز.

ولمناسبة يوم التأسيس في المملكة خصوصيّة تفوق كلّ مثال لعيد وطني في أي بلد آخر، هو اليوم الذي نشأت فيه الدولة السعودية الأولى في 1727 م، نواة لما سيكون المملكة العربية السعودية والتي تمّ إعلانها رسميًا في 1932، وإذا كان يوم التأسيس هو شرارة، فإنّ إعلان الدولة كان الثّمرة التي رويت ونضجت، لتقصّ حكاية من دفاتر صناعة التاريخ وممارسة كلّ فنون التّخطيط السّليم.

قامت المملكة على يد الملك المؤسس ككيان ضخم وفاعل في المنطقة العربية، لتمنح قدسيّة الدين الموروثة والمستمرة نبعًا جديدًا من المساحة والثّروة والإمكانات البشرية، كواحدة من أهم القوى العربية والإسلامية الفاعلة، وأغناها قاطبة، وكانت في مراحل ماضية تقود العمل العربي الرّسمي، ولو من وراء ستار أو في الدّهاليز المظلمة. لكن لحظة هندسة النشأة في تاريخ السعودية كانت هي لحظة صناعة وخلق حدود التأثير، عربيًا وإقليميًا وإسلاميًا ودوليًا، وكان واقع إعلان قيام الدولة السعودية ترجمة لمصالح متبادلة وأوراق قوّة وعلاقات متشابكة، ولم ترتكن –بالأدقّ ترتهن- في أي وقت من أوقاتها الحاسِمة إلى فكرة عابرة أو وضع مائل، بل كان الحِرص دائمًا على صون الأمن الوطني من بوابة الفَهم لا التّمني، والثّقة لا الظن.

طوال السنوات التالية لقيام المملكة العربية السعودية، كان الإطار الشامل للحركة، لدى كل ملك هو ضمان أمن البلد أولًا، بأيسر السبل وأفضلها، كان السلاح موجودًا والحلفاء مستعدين ويقدّمون خدماتهم فور طلبها إذا ما حانت لحظة المعارك، وكان المال طريقًا لشراء الولاء والمواقف، وكان دوره هو الآخر أخطر من السلاح وأنفع في مراحل طويلة، كانت المملكة هادئة عكس جيران تذوّقوا مرارات العواصف التي مرّت بالمنطقة كلّها، متّجهة إليها أو منطلقة منها. كانت هندسة مشروع المملكة السعودية عملية شاقّة ومستمرّة، لم تخرج إلى الوجود بطريقة تلقائيّة أو لحظيّة، بل كان منذ اليوم الأوّل مشروعًا أقتضى الجهد والقصد والحركة، وقبله تخطيط واعٍ وتصميم للفكرة وتوجيه لحركتها طوال الوقت، قامت المملكة واستمرّت استجابة لوعي وضرورة ووسيلة، وبالنّهاية منحت إدارة القدرات الذاتيّة والاستفادة من معادلات القوى الكبرى والإقليمية المشروع إمكانيّات التحوّل من فكرة أو حلم إلى إنجاز التحقّق، قفزة بعد قفزة، في مناخ من الثّقة المعزّزة بخطوات على الأرض.

ولم يشهد عصر تأسيس المملكة صدامًا مع الماضي، بل شهد ككلّ مشروع وحدة الشروط الثلاثة الأساسية واللازمة حتمًا، وهي الحسم والتّفهم والتّفاعل الخلّاق بين مكوّنات المجتمع، فلا القوّة الباطشة قادرة على محو الأفكار وتغيير القناعات، ولا المال نافذ إلى القلوب، فكانت سيادة قدر من التّصالح المحسوب، وصولًا إلى ممارسة التّنازل في بعض الأوقات، طريقة مثالية لتغيير مجموعة القبائل إلى مجتمع ودولة، وقد نجح على أي حال في الثّبات والاستمرار حتى اليوم.

ويُمكن أن يستمرّ القلم في السّرد لصفحات إضافيّة عن الحلم والإعلان والوجود، ودون أن يَذكر الملك عبد العزيز آل سعود مؤسّس المملكة، أو الأمير محمد بن سعود أمير الدرعيّة، فالشخصيّات التاريخيّة ذابت في المشروع، وتحوّلت الأسماء إلى درجات ترتقي عبرها الدّولة التي نعاينها حاليًا ثابتة، وبوجود أصبح حقيقة لا تقبل النّقاش أو التّشكيك، وحدها الأحداث والقرارات صنعت عالم اليوم بكامله، والوضع ذاته ينطبق على شخصيّات سياسيّة غيّرت التّاريخ، مثل أوتو فون بسمارك، مستشار ألمانيا الأعظم، وصاحب إنجاز توحيد كلّ الولايات الألمانية في 1871.

وهذه هي مزية دراسة التاريخ الكبرى، فهو في عمقه الدّافق درس المستقبل لا الماضي المنقضي، وفيه كلّ ما يُمكن من عبر ومن مزالق تهدّد وتترصّد، ويمنح للأذهان تجربة دون تكاليف مروٍعة، وبلا مخاطر على الإطلاق، إذا كان المستهدف تغيير المسار أو تصويب المسيرة.

وما تقوله سيرة التاريخ، بالنّسبة لأيّة دولة قد حقّقت إنجازًا ما على صعيد التقدّم أو في طريق التّغيير، يكشف بجلاء إنّها انطلقت من ثوابت واحدة، وهي ارتفاع الدولة عن الأفراد، مهما كان موقعهم أو دورهم المركزي فيها، وبالتّالي فإنّ إستراتيجيّات العمل فيها لا تعود مجرّد إلهام أو نزوة رجل واحد، وأنّها ثابتة مبدئيًا، بحيث لا يؤثّر فيها التّغيير في السّلطة ولو كان عند القمّة، كما لا يشتّتها تغيير القادة والرؤساء، وإنّها طالما وضعت تبقى في إطار الهدف القومي الأسمى، قد تقترب منه الخطوات بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، لكنّها دائمًا تضع نصب عينيها هذا الهدف وتركّز على الوصول إليه.

لكن في حال رأس السلطة الذي يقرّر التّغيير لمجرّد الحصول على صفات القيادة والإلهام من الغرب، فإنّ النّتائج دائمًا ما تكون كارثة، ويمكن بسهولة ملاحظة فارق أساسي بين عملية تغيير تنطلق من شاغل وطني وقومي، وضرورة وجود، وبين عملية إعلامية زائفة، يكون وقود النظم الحاكمة فيها ما عنونَه المفكّر الشهير نعوم تشومسكي بـ "فلسفة الإلهاء".

وفي هذه الفلسفة أو الطريقة يكون الهمّ الأوّل للنّظام الحاكم في فرض ما يريد تمريره على الشعب هو إشغال الرأي العام دائمًا وبشكلٍ مستمر بمعارك تافهة، ليتمّ إبعاده تمامًا عن طريق التغييرات التي ترغب فيها النّخبة السياسيّة والاقتصادية المسيطرة، عبر وابل من الأحداث المصطنعة، والمغطاة إعلاميًا بكثّافة وتركيز شديدين، وضمان دخول أجهزة السلطة في زيادة الجدل حولها، بما يضمن التّغييب والتّخدير الجماعي للشعب في محيط من التّفاهة والاستنزاف المقصود.

قرار التغيير أو التّحديث في المملكة اليوم ليس كمثله بين أفعال بني البشر شيء، فهو يجري أوّلاً في القصور، وبعدما تطبع عليه صورة ولي العهد فإنّه يتحوّل إلى قدر وإلى قانون، فقط تكفي الفكرة مهما بدا خطأُها وضعفها مجرّد زيارة أحلام لمخدع القائد الملهم، لا تلبث أن تتحوّل إلى سياسات نافذة، ثمّ تأخذ طريقها من الخيالات إلى أرض الواقع عبر خطوات تنفيذيّة سريعة لا تلوي على شيء، سوى حماسة إظهار الولاء والتّفاني من قبل رجال وأجهزة الدولة لمشيئة الأمير ورغباته.

إنّها الوصفة السحريّة للفشل عبر التّاريخ المعاش في العالم كلّه، والنّهج الذي تسير عليه الإدارة السعودية حاليًا، في ظلّ واقعٍ ساحق، ورُعبٍ قادم من طغيان عصر جديد كلّ قواه الكبرى تُريد السيطرة على المنطقة وتخطّط لها، وأطراف محلية راغبة هي الأخرى في تمرير السيطرة، ومدفوعة بارتهان مسبق للأجنبي، وخلف الكلّ شعب يحلم بامتلاك إدارة وطنيّة حقيقيّة لبلاده، وإلّا فهو الموت قهرًا لا محالة.