خاص الموقع

أزمة ثقة

في 2022/03/19

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

يرى الحكيم الصيني كونفوشيوس، أنّ مهام أي حكومة تتمثّل في 3 أولويّات، لا يستقيم استمرارها إلّا بها، ويُعدُّ التّفريط فيها سيرًا نحو نهاية الحكم والدولة، وهي ضمان الطّعام والشّراب للمحكومين وهو أوّل سبُل الحياة وألزَمها، وامتلاك الحدّ اللازم من القوّة للحفاظ على الأرض والوطن، وأخيرًا حيازة الحكم الثّقة من عموم الناس.

ويستكمل الحكيم الصيني الأشهر، أنّه إذا ما اقتضت الضرورة الاستغناء عن أحد لوازم الاستمرار للحكم، فإنّه من الأفضل التّنازل عن امتلاك القوّة والسّلاح، إذ أنّ الشّعب يستطيع الدّفاع عن أرضه باستخدام كلّ وسيلة ممكنة، ولن يعجزه نقص السلاح، ثمّ التّنازل عن توفير الطّعام والشّراب، إذ يهدّد الجفاف والأوبئة أصلًا بقدرة أي حكومة على توفير الطعام بشكلٍ دائم مستمر، لكن التنازل عن وجود الثّقة بين الحكم والناس هو المؤذّن الأوّل بالخراب ونهاية الدولة، إذ لا بقاء لحاكم دون الثّقة.

الثّقة أو العلاقة الوثيقة غير المرئيّة بين الحاكم والمحكومين ستبقى هي أهم عوامل وجود حكم كفء قادر، والرؤية التي يمتلكها الحاكم ستبقى هي الأخرى أهم أسباب مواجهة الأزمات والمنغّصات وعبور العقبات على الطريق، والضّمانة الأوّلية لقدرة الشّعوب على عبور لحظاتها الفارقة، والتي قد لا تكون مواتية، وبالتأكيد ليست دائمًا كلّها متوقّعة أو منتظرة، باختصار فإنّ إدارة الشعوب بتنوّعاتها واختلافها، وتنافرها أحيانًا، تتطلّب الكثير من الجهد لا الاستعراض، والعمل لا التّرفيه والاحتفالات.

في الرّياض كانت مقولة كونفوشيوس تترجم على صورة عملة من وجهين، وجه أوروبي-غربي، جاء مهروِلًا إلى العاصمة السعودية باحثًا عن ترميم خطوطه وتدعيم وسائل قوّته في مواجهة حرب عالمية مصغّرة، يعدّ الاقتصاد واحدًا من ساحاتها الكبرى، كما تجري عواصفها ساخنة في أوكرانيا، وتتصادم الإرادات في أوروبا، وتفيض أزماتها على العالم كلّه، بحيث أصبح الابتعاد أو الحياد رفاهيّة لا يمتلك أحد إمكانيّاتها.

رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، كمثال، جاء لمقابلة ولي العهد بحثًا عن تدخّل سعودي يُعيد الانضباط إلى أسواق النّفط، عقب ارتفاعات مذهلة نتيجة للعقوبات الغربيّة المفروضة على روسيا، أحد أهم وأكبر منتجي النّفط في العالم، وهو في ذلك يبحث عن مصلحة لبلاده التي يضربها التضخّم وارتفاع أسعار الطاقة.

أي قراءة واعية لزيارة جونسون لا تقول بغير أنّ المصالح متعارضة، فما الذي يفيد المملكة من دفع الأسعار نحو الانخفاض، والعودة إلى المربّع صفر، مربع عجز الموازنة وقلّة الإيرادات النفطيّة، عقب أعوام طويلة من تراجع الأسعار، ثمّ سنوات ثلاثة من انهيارها مع تفشي جائحة كورونا!

فرصة زيادة أسعار النفط جاءت كضربة حظ كبرى، وهي ستمكّن كل الدول العربية البترولية من عبور الزيادات الهائلة في أسعار المواد الغذائية، وكلّ الخليج مستورد صافي لهذه المنتجات، كما أنّه سيُعيد الاتّزان إلى المالية العامّة، بفعل ارتفاع الإيرادات، وبالتالي سيجب العجز المتحقّق خلال السنوات الماضية، والمستمر في الموازنة السعودية منذ 2015.

وإذا كانت مصلحة الشعب البريطاني، والثّقة الممنوحة لجونسون، تقتضي من الرّجل أن يسعى بكلّ قوة لضمان أسعار نفط أقل، فإنّ مصلحة السعودية وشعبها ومقدار الثّقة الممنوح إلى ولي العهد يقتضي بأن تصمت الأبواق السعودية قليلًا عن إطلاق التصريحات ومنح العطايا المجانيّة، والانتظار لجني المزيد من أرباح الأزمة كما ستدفع الرياض تكاليفها في صورة واردات مرتفعة وتضخّم يضرب العالم كلّه.

وبالتّأكيد فإنّ سبب الزيارة الأهم ليس في ارتفاع النفط، وهو مؤقت بالتأكيد، لكنّه في أنباء اتّفاق صيني سعودي مبدئي على بيع النفط مقابل اليوان الصيني، بدلًا عن الدولار الأميركي، وهو ما يعدّ –إن حدث فعلًا- مسمارًا في نعش الإمبراطورية الأميركية، وعلامة إيذان بقرب غروب شمس عملتها ورمز سيطرتها الهائل على اقتصاد العالم وموارده، والحاكم الأول للتبادل التجاري الدولي.

الخطوة السعودية المتأخرة نحو التنين الآسيوي الصاعد حقّ لها، بما يكفله من تحسين شروط التبادل التجاري، والابتعاد مسافة آمنة عن الولايات المتحدة، والتي تبدو إدارتها الحالية بقيادة جو بايدن في حالة من العداء المعلن مع السعودية، وتريد أن تفرض رأيًا حول الملك القادم، أو على الأقل تكبّله مقدمًا بما يزيد من عوامل تبعيّته واحتياجه لواشنطن.

المملكة مدعوّة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى تفعيل نظام ما للحكم والإدارة والقرار، يستفيد من المتغيّرات الدّولية الهائلة الحادثة، ويتحاور مع العالم من باب الندّ للندّ، ويعمل على بناء طريق نحو تحقيق المصلحة العليا للناس لا للأنظمة الغربية، والأهم يُخاصم الفردية في اتّخاذ القرار ويغلق بالتالي باب التنازلات المجانيّة، ويُعيد السعودية إلى حضن شعبها لا إلى الحضن الأميركي.