خاص الموقع

حرب أوكرانيا الطويلة

في 2022/09/01

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

إلى النّقطة صفر، أو ما دونها، عادت الدّول العربية بعد فترة غياب إلى بؤرة اهتمام النّشرات الاقتصاديّة العالميّة، مع تبدّي حقيقة أسوأ المخاوف، وهي طول أمد الحرب في أوكرانيا، وتأثيراتها الصّاعقة على موازنات الدّول العربية المختلّة بالأساس، منذ فترة تفشّي كورونا، أو من قبلها بسنوات، وعلى تهديدها المستمر بزعزعة أوضاع هشّة أصلًا.

وقبل أي دخول في حديث عن أسباب الأزمة أو تداعيّاتها، فلا بدّ من تثبيت حقيقة أولى، وهي أنّ الحكومات القائمة في كلّ دولة تتحمّل بشكلٍ كامل غير منقوص عبء توفير الأمن الغذائي للشّعوب التي تحكمها –بالأدق تتحكّم فيها- ووفقًا لتعريف الأمن الغذائي لدى منظّمة الأغذية والزّراعة بالأمَم المتّحدة، وهو: "إمكانيّة الحصول على غذاء صحّي وكافٍ للشّخص خلال حياته".

وفي صلب أي حديث عن الأزمة، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ أزمة تفشّي فيروس كورونا، وما تبِعَته من تداعيّات اقتصاديّة مدمّرة، ثمّ الحرب الروسية الأوكرانيّة، قد عرت مكامن الضّعف العربي، ثمّ ضغطت على الأعصاب العارية بشدّة، فنفذ الوجع إلى أقصى مدى وأعمق نقطة في الجسد العربي كلّه، ومع اجتماع كلّ هذه العوامل بالفشل الرّسمي الهائل في التّعامل مع الأحداث الطّارئة، فانعكست فورًا على كلّ مواطن، تُصيبه بلفحة من نيرانها.

ومنذ الإغلاق العالمي الواسع، تبدّت حقيقة أنّ الدّول التي لا تزرع ما تأكل ولا تلبس ممّا تصنع، قد وقعت في شرك أزمة عنيفة، ثمّ أضافت أزمة سلاسل التّوريد العالميّة والتأخّر في عمليّات الشّحن ومعوّقات النّقل، فعلها إلى أزمة قائمة بالفعل، وطوال هذه السنوات لم تُحاول أي دولة عربية الخروج من هذه الدائرة الجهنّمية، ومعالجة أزمة تشوّه الهياكل الاقتصاديّة.

كان من الضّروري منطقيًا، والمطلوب وطنيًا، أن تُسارع الحكومات العربيّة إلى أن تضخّ كلّ جنيه/ريال متوفّر في موازنات هيئات البحوث الزراعيّة، لتقليل حجم الفجوة الغذائية من جانب، والتحسّب إلى ندرة تدفّق الواردات الأجنبيّة من الغذاء، حيث تتحكّم كلّ من روسيا وأوكرانيا، وبدرجة أقل وفرنسا ورومانيا، في 60% من حجم واردات الحبوب إلى المنطقة العربية، وتتميّز الواردات من روسيا وأوكرانيا بالذّات بميزات سعريّة، كما أنّها أقرب جغرافيًا ما يحلّ مشاكل النّقل البحري البعيد.

ما جرى هو أنّ الحكومات لا تعرف المنطق ورسبت أيضًا في اختبار الوطنيّة، فكلّ ما يُنفق على مصروفات البحوث الزراعية في الدول العربية مجتمعة يمثّل أقل من 1% من قيمة الإنتاج الزّراعي، وهذه النّسبة هي الأقل، وبالتالي كانت المنطقة كلّها –وستستمر- من كبار مستوردي الغذاء في العالم، والمنطقة الأقل في تحقيق الأمن الغذائي لشعوبها.

وتستورد الدّول العربيّة مجتمعة بنحو 100 مليار دولار من السّلع الغذائيّة سنويًا، وهذه الأرقام بالطّبع سترتفع نهاية العام مع جَرد الحسابات والزّيادات الطّارئة على أسعار القمح والذّرة خصوصًا، الدول الخليجية الغنيّة، والتي تتربّع أصلًا على قمّة مؤشّرات الأمن الغذائي العربي ستستطيع بكلّ بساطة تجاوز أزمتها مع الارتفاعات في أسعار النّفطـ، أمّا غيرها فلشعوبها الله وحدَه.

وتشمل الواردات العربيّة كلّ السّلع الغذائيّة تقريبًا، 63.5% من استهلاك القمح، و75% من استهلاك الذّرة، اللازمة للأعلاف وإنتاج اللّحوم الحمراء والدّواجن، و55% من الاحتياجات السنوية من الأرز، و65% من استهلاك السكّر، و55% من الزيوت، وكلّ الأرقام صادرة من قطاع الشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية.

إنّ الوضع الحالي في المنطقة العربية يفضح أكثر ممّا يخفي، ويكشف عن أنظمة باعت شعوبها لكلّ إدارة غربيّة، أو رئيس أميركي يُريد الحصول على نقاط في سباق انتخابي أو سياق شعبَوي ببلاده، كونَها المكان الملائم –والوحيد-لتَحقيق انتصارات أميركيّة سهلة، وبلا تكاليف تقريبًا، ووسط هذه الاستباحة الكاملة، فقد تحوّلت المنطقة من ميدان صراعات عالميّة إلى حقل تجارب أميركي، سياسيًا وعسكريًا، وأخيرًا اقتصاديًا، ويتوجّب عليها أن تدفع من ثرواتها ومواردها ومستوى معيشة سكّانها الأثمان الباهظة للصراع الأميركي مع روسيا.

ورغم ما تُثيره تلك الحقيقة في النّفس من ألم وتبثّه إلى الروح من إحباط، إلّا أنّها أفضل وقود دافع لمحوَر المقاومة، ليستكمل حيازته على تمثيل الشّرف العربي، إيمانًا وكرامة، في وجه معركة الغرب الحاليّة على المنطقة، وفيها المعركة الكبرى التي يخوضها محور المقاومة كمتراس وحيد باقٍ أمام آخر محاولات الهدم والتّغييب.