خاص الموقع

اليوم الوطني والخديعة المرة

في 2022/09/26

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

بعروض لوّنت الأرض وزيّنت السّماء وأزالت وجه الظّلام عن ليل أغلب المدن، احتفلت المملكة السعودية بيومها الوطني، في واحدة من أهم الأيّام التي سعى ويسعى النّظام الجديد لاستعراض مُنجزاته والتّرويج للرؤية التي يحمِلها ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، لمستقبل البلد وسنوات شعبه القادمة.

لكن العام الحالي شهد تضافر ظروف وعوامل عدّة، ساهمت في تحوّل اليوم الوطني إلى مناسبة خاصّة جدًا للمملكة بشكلٍ عام، ولولي العهد بشكلٍ خاص، ورتقت ثقوبًا عديدة كانت تُعاني منها البلاد خلال السنوات القليلة الماضية، وأضفت التغيّرات العالميّة على الاحتفالات لذّة وعلى المحتفلين نشوة، بالقدر ذاته الذي عالجت فيه أزمات، كانت لتجعل من أيّة مناسبة وطنيّة فرصة للحساب والمراجعة.

دفعت الحرب الرّوسية في أوكرانيا العالم كلّه إلى حافّة الهاوية، لكن كما كان هناك من يُعاني، كانت المملكة والدول المصدّرة للنّفط عمومًا من أهم المستفيدين، وكما كان التّأثير الاقتصادي عميقًا ومؤثرًا في بِنية الدول الاجتماعية، وعلاقة الحكومات بشعوبها، جاء التأثير السياسي كبيرًا ولافتًا، وتغيّرت مواقع الصّداقة والعداوة على امتداد العالم، وفيما بين القوى النّافذة، بشكلٍ يُمكن تشبيهه بعاصفة هوجاء، بدّلت المواقع والخطوط، وحتّى السياسات والمبادئ.

على صعيد الاقتصاد، للمرّة الأولى منذ 6 سنوات كاملة تحقّق الموازنة السعودية فائضًا فصليًا –في 3 شهور- ثمّ استمرّت العجلات بالدوران، لتحقّق فائضًا هائلًا في النّصف الأوّل من عام 2022، بنحو 135 مليار ريال، تقدّر بـ 7% من النّاتج المحلّي الإجمالي، وبتقديرات متفائلة أن تصل في نهاية العام الجاري إلى 335 مليار ريال، مدفوعة بارتفاع الإيرادات العامّة إلى 1338 مليار ريال، بنسبة زيادة 38% عن العام المالي الماضي 2021.

وإذا كان الاقتصاد هو التحدّي الأوّل والجبهة الأهم للعمل الوطني، في أي بلد ووسط أي تجمّع بشري، فإنّ ما تحقّق كان كفيلًا بتحقيق نوع من الهدوء وبثّ الكثير من الثّقة إلى مفاصل المجتمع، وتحويل الخطاب من نقد حاد إلى نوع من التّحذير والتّنبيه، مع ما قامت به الحكومة بالفعل من زيادة كبيرة في المصروفات العامّة –بنسبة 4% عما كان مقرّرًا- وهو ما أتاح الفرصة للأبواق الإعلاميّة للحديث عن "منجز سيتحقّق" عوضًا عن "فشل واقع"، بل ووصلت إلى حدّ استلهام أجواء روما القديمة، واحتفالات قادتها، ورسم أقواس نصرها.

فجأة، ومن خارج السّياق تمامًا، جاء الحلّ الخارجي إلى حجر ولي العهد وفي أحضانه، عبر الارتفاع المُذهل لأسعار النّفط، والتوقّعات باستمرار ارتفاعها إلى منتصف العام المُقبل 2023، على الأقل، رغم الرّكود الذي يضرب أكبر الاقتصاديّات في العالم، وهي مفارقة تنتمي إلى عالم خيالي، يمتزج فيه الوهم بالأمنية والتسرّع بالهدوء المصطنع خلف أقنعة تخفي ما تُخفيه.

والأمر الثّاني المختلف في اليوم الوطني السعودي للعام الحالي، كان في تحوّل المملكة إلى قِبلة لزعماء العالم وقيادات الدول الكبرى، عقب فترة طويلة من الجفاء الرسمي الغربي، بل وعداء النّخب والإعلام في أميركا وأوروبا بشكلٍ خاص لولي العهد، وتعدّدت الزيارات، من الرّئيس الأميركي جو بايدن في جدّة قبل أسابيع، إلى المُستشار الألماني أولاف شولتس، قائد أكبر اقتصاد أوروبي، خلال الأسبوع الحالي.

لا شك أنّ قضية الطّاقة وقدرة المملكة على زيادة أو تقليل إمداداتها للسوق العالميّة شكّل أزمة فارقة بالنّسبة للصناعة العالميّة ولدول أوروبا بالذّات، مع اعتمادها شبه الكامل على الواردات من النّفط والغاز، وهو ما جعل محمد بن سلمان طوق النجاة من تسلّط بوتن وإمساك روسيا بمفاصل الاقتصاد الأوروبي عبر صادراتها من الغاز الطبيعي، وهو الأمر الذي ذهب بالموقف السّابق إلى جب النسيان، وأجبر الكلّ على تغيير مبادئه، هذا إن كانت لدى الغرب مبادئ من الأساس.

إذًا، تلقّف المنتظرون فرصة تغيّر الظروف، وانعكاساتها الإيجابية على المملكة، وتناسى الكل في غَمرة الانفعال ونشوة موجة النّفاق الجماعيّة، أنّ كلّ تلك التّغييرات مؤقّتة، ألقت أطنانًا من مساحيق التّجميل على نتائج السياسات السعودية، فبدا -بفعل الوهم والتّمني- أنّ مكانة المملكة تعزّزت فجأة، وأنّ قيمة ولي العهد قد زادت أخيرًا، أو أنّ الوضع الجديد الناشئ عن الحرب المشتعلة في أوروبا سيستمر لفترة زمنية غير محدّدة.

الاحتفالات الجنونيّة باليوم الوطني، وإن كانت مناسبة وطنية مفهومة وعادية، تجاوزت بفعل الخديعة الرّسمية كلّ ما يمكن تفهّمه وابتلاعه، وجاءت فرصة لواضعي ومنفّذي السياسات التي ثبت فشلها طوال الأعوام الماضية، وتاريخ الشعوب كما يحمل في طيّاته لحظات الصّدف السعيدة لمن لم يبذل جهدًا، فإنّه يكتظّ بأيام المعاناة وسنوات الحساب المر.

عمليات الإصلاح والداعون إليها، ممّن وجدوا الفرصة سانحة لتبني خطاب نصر من نوع ما، وتناسوا أنّ عمليات النّهضة والتّنمية اعتمادًا على المفاجآت ينطوي على مقامرة هائلة بمستقبل الشّعب قبل أن يكون رهنًا لحاضره، وأنّ المعاناة الاقتصادية التي لاقاها الشّارع السعودي والمواطن السعودي طوال السنوات الماضية، وحدها تظلّ مؤشرًا حقيقيًا لقياس مدى وعمق التّغيير الذي يستطيع المجتمع احتماله، دون المغامرة بتفجيره من الداخل، وتركه نهبًا للقلق.

والقارئ الواعي للأزمة السعودية الحاليّة، والعربية بشكلٍ عام، لا بدّ له وأن يُدرك أنّ الأنظمة الرّسمية الحاكمة، والنّخب المسيطرة والمتصدّرة لمشاهد العمل العام، لا تنتمي لتلك الديكتاتوريّات المتسلّطة التي عرفها العالم وخبرها في أميركا اللاتينية، والمعروفة أكثر باسم جمهوريّات الموز، لكن أغلب النّظم العربية تنتمي لما يُمكن تعريفه بأنّها جمهوريّات قشور الموز، بحكام جاءوا عبر صعود صادم، في غفلة من الزّمن وفي سقطات تاريخيّة متكرّرة، ليقودوا دوَلهم عبر أسرع طريق ممكن إلى حيث لا تريد، وحيث هي لا تَعرف.