علاقات » صيني

مسارات التنافس الأمريكي الصيني الروسي في الخليج

في 2022/11/09

محمد علوش- 

في كلمة أمام الرؤساء والملوك والمسؤولين الممثلين لست دول خليجية بالإضافة إلى الأردن ومصر والعراق، قال الرئيس الأميركي جو بايدن في ختام زيارته للسعودية في 18 يوليو الفائت: “لن نتخلى (عن الشرق الأوسط) ولن نترك فراغا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”.

ومع دأب المسؤولين الأميركيين في الآونة الأخيرة على الحديث عن تصاعد الخطرين الصيني والروسي على المصالح الأميركية عالميا، أضحت “منافسة القوى العظمى” أو “المنافسة الإستراتيجية” في صميم إستراتيجية الولايات المتحدة بديلاً عن “مكافحة الإرهاب” التي طبعت العقدين الماضيين.

في هذا السياق، يحاول الأمريكيون مقاربة التعامل مع منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر أحد أبرز مجالات التنافس الإستراتيجي. وكان قائد القيادة المركزية الأمريكية التي تشرف على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى، الجنرال كينيث ماكنزي أكثر وضوحًا في خطاب ألقاه، في فبراير 2021، حيث قال: إن روسيا والصين “يتنافسان على السلطة والنفوذ (في الشرق الأوسط) من خلال مزيج من الوسائل الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية”.

أمّا عن سياسات الولايات المتحدة تجاه هذه المنطقة، فيشير بريت ماكغورك، كبير مسؤولي سياسات الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في حوار مع “ذا ناشيونال”، في 25 نوفمبر 2021، أن نهج الإدارة في عهد الرئيس بايدن بمثابة “العودة إلى الأساسيات” أي تعزيز الشراكات في منطقة الشرق الأوسط، ومساعدة الشركاء في الدفاع عن أنفسهم.

الرؤية الصينية والشراكة الخليجية

تطرح الصين نفسها قوة عالمية من منظور مختلف عما اعتادت أن تكون عليه الدول الكبرى كما الولايات المتحدة حاليًا، والاتحاد السوفياتي وبريطانيا العظمى سابقًا. وفق المنظور الصيني فإن تبني إستراتيجية “القوة الناعمة” هي الأنسب في تحقيق الأهداف المنشودة على المستوى الدولي. وهذا يتطلب منها طرح نفسها كوسيط في حل الأزمات الدولية، وعدم الانخراط في نزاعات دولية، أو الاصطفاف ضمن محاور دولية. كما يتطلب الأمر خلق بيئات آمنة لتعزيز نموها الاقتصادي.

ولهذا ابتكرت الصين نموذج” مبادرة الحزام والطريق” الذي يقوم على شراكة طويلة الأجل مع الدول الأخرى ترتكز على تطوير البنى التحتية براً وبحراً تمهيداً لفتح الأسواق أمام منتجاتها للوصول الى كافة أرجاء المعمورة.

وقد منحت “مبادرة الحزام” دول الخليج ميزة إستراتيجية عالية كونها تشرف على أهم المضائق والمرافئ الحيوية بالنسبة للصين للوصول إلى إفريقيا وأوروبا، فضلا عن الأسواق الخليجية ذات الانفاق المرتفع. وتُوجت المبادرة بزيارة الرئيس الصيني للمنطقة، في يناير 2016، حيث أعلنت دول الخليج رغبتها بتأسيس شراكات استراتيجية مع الصين.

وتهدف استراتيجية الصين إلى ضمان استمرار تدفق الطاقة من الخليج لمصانعها، وحماية خطوط الملاحة مثل الموانئ التي تعبر منها وإليها السفن الصينية، وإبعاد خطر القرصنة البحرية عن خطوط الامداد والتوريد. وتماشيا مع هذه الرؤية، فقد طورت الصين علاقات مع دول المنطقة شملت إنشاء قاعدة بحرية في جيبوتي عام 2017، وهي أول قاعدة عسكرية خارج الصين.

وخلال زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الصين عام 2017، تم توقيع عدد من الاتفاقيات من ضمنها صفقة لبناء مصنع في المملكة لتجميع وخدمة الطائرات بدون طيار الصينية. ومن المشاريع التي تشارك في تمويلها وتجهيزها الشركات الصينية مشروع “نيوم” الذي طرحه ولي العهد السعودي لخلق مدينة منافسة لمدينة دبي الإماراتية.

وفي عُمان، قررت الصين إنشاء منطقة صناعية كبرى بالقرب من مضيق هرمز، تتضمن إنشاء مصفاة نفط ومجمع للبتروكيماويات.

أما في الإمارات العربية، فقد تعاقدت أبو ظبي مع شركة الاتصالات الصينية “هواوي” كما تطمح إلى جعل الإمارات مركزا لأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي. وطال التعاون المجال العسكري حيث شمل شراء طائرات بدون طيار صينية الصنع.

روسيا المتعثرة

بعد تدخلها في سوريا عام 2015، طرحت روسيا نفسها كشريك أمني بديل عن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبنت تحالفات غير معلنة مع دول خليجية تقاسمها الرؤية نفسها في سوريا وليبيا والسودان. وقامت بعقد صفقات عسكرية مع أغلب دول المنطقة.  كما استغلت علاقاتها المتنامية مع إيران وتركيا ومصر لطرح خطتها الخاصة بهيكلية الأمن الجماعي في الشرق الأوسط. وقد تعهدت بعض الدول منها الإمارات العربية في نوفمبر 2019 بدراسة المقترح الروسي الذي لم يبصر النور.

ويعتبر التعاون في سياسات الطاقة من أهم الإنجازات في العلاقات الروسية الخليجية. فانضمام روسيا إلى “أوبك بلس” عام 2016 في إطار عمل جماعي لمصدري النفط بعد أن كانت روسيا منافسة للتكتل الذي تقوده السعودية على المستوى الدولي، قرّب البلدين من بعضهما، وساعد في تنسيق المواقف بين الرياض وأبو ظبي وموسكو في مجالات دولية أخرى.

وبرزت روسيا كدولة صاعدة، لكنّ أداءها العسكري في الحرب الأوكرانية قلب الأمور رأسا على عقب. فروسيا اليوم متعثرة. وقد انزلقت لحرب تستنزف كامل طاقاتها كحالة الاتحاد السوفياتي خلال الاجتياح لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي والتي انتهت بتفككه..

فالسلاح الروسي أظهر ضعفه وتخلفه نسبيا أمام الأسلحة الغربية. والحصار المفروض، وسياسات العقوبات الهائلة، وعجز التصنيع العسكري عن تلبية احتياجات الميدان، أمور أفقدت روسيا حضورها على المسرح الدولي، كما أفقدتها بريقها ونموذجها الجاذب في العالم. بوتين الذي انتزع اقليما من جورجيا عام 2008 ثم قضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014 وحسم الصراع في سوريا، وتدخل في ليبيا ودول إفريقية عدة أمام تردد غربي ظاهر، انتهى به المطاف معزولا وعاجزاً.

فرص دول الخليج

أهم عوامل الانجذاب في العالم العربي نحو الصين وروسيا، أن الدولتين، بخلاف الولايات المتحدة والدول الغربية، معاديتان للديمقراطية الغربية، وتمقتان قوى الإسلام السياسي، ولا تلقيان بالاً لقضايا حقوق الانسان، ولا تأويان معارضة سياسية، ولا ترغبان بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولا تفرضان قيودا على مشتري السلاح.

ومع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، كان الرهان أن تتحد موسكو وبكين معاً لإنهاء الهيمنة الأميركية وخلق نظام عالمي متعدد الأقطاب تلعب فيه الدولتان دورا أكبر. لكن بعد مضي شهور على الحرب تبين أن الأمور تسير عكس ما كان يراهن عليه. فلا روسيا تمكنت من حسم المعركة لصالحها وفرض كامل شروطها على الغرب، ولا الصين تجرأت على تقديم الدعم العسكري لموسكو، ولا الولايات المتحدة قررت الانسحاب من الشرق الأوسط حيث أتت زيارة بايدن لإعادة التأكيد على الضمانات الأمنية لشركائها في الإقليم.

وضمن إطار اشغال الخصم وتشتيته عن أهدافه في التنافس على الريادة الدولية، قامت الولايات المتحدة بتسخين المنطقة في المحيط الهادئ من خلال الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي الى العاصمة التايوانية تايبيه في 2 أغسطس من العام الجاري. سبق ذلك كما تبعه، تكثيف واشنطن ولندن حضورهما في المحيطين الهادي والهندي، وتعميق التنسيق مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ضمن جبهة واحدة، جعلت بكين منهمكة أكثر من أي وقت مضى لتأكيد نفوذها وحقها في محيطها وضمن مجالها الحيوي.

أما خليجياً، وعلى الرغم من أن الشراكات العسكرية مع روسيا والصين لا تتصل بالتقنيات الحساسة إلا أن الولايات المتحدة لا تكف عن توجيه رسائل التحذير لحلفائها عندما ترى خطوطها الحمراء تتعرض للانتهاك. ففي أبريل عام 2022، تدخلت الولايات المتحدة لوقف صفقة كبيرة تشتري بموجبها السعودية أسلحة صينية. وفي عام 2021 تدخلت الولايات المتحدة للتأثير على أبو ظبي لمنع الصين من استكمال العمل في موقع بحري قالت الولايات المتحدة إنه مخطط صيني لبناء قاعدة عسكرية.

الخاتمة

في الخلاصة، روسيا منشغلة بالخروج من مأزقها في أوكرانيا، وقدرتها على تصدير السلاح حاليا شبه معدومة، ونفوذها في الشرق الأوسط يتقلص بعد سحبها معدات وقيادات عسكرية كبيرة من سوريا لنقلها الى أوكرانيا، أما بالنسبة للصين فإن التدفق الآمن للنفط، ونجاح السعودية في تصدير نفسها كمصدر موثوق للطاقة، وتأمين خطوط الملاحة البحرية، يحتم عليها التفكير بإمكانات التعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة صاحبة النفوذ العسكري الواسع في المنطقة لمنع انزلاق الإقليم الى صراعات تهدد أمن الملاحة البحرية.

وسط هذه التحولات والمتغيرات، والتي قد تُجبر فيها دول الخليج لاحتمالية الاصطفاف أو الانخراط في محاور دولية متصارعة، فإن الفرصة سانحة لديها لتوسيع هامش المناورة والتحرر من سياسة الانقياد، حيث قد يبلغ التنافس الإستراتيجي مداه بين واشنطن وبكين وموسكو في المستقبل المنظور.