خاص الموقع

كأس العالم.. أي عدو وأي صديق!

في 2022/11/26

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

لا يُمكن لسفينة أن تمخر عباب البحر دون بوصلة، تهدي وتدلّ ربّانها وبحّارتها على الطريق، كذلك الشعوب في حركتها الدائمة ضمن المحيط العالمي، لا يُمكنها أن تَعبُر إلى برّ الأمان دون بوصلة، بوصلة من قيَمها وتقاليدها وتوافق مواطنيها واستفادة غرفة القيادة فيها من التّجارب الماضية والدروس التي مرّت بها، والعِبَر المُستلهَمة من مسيرتها الإنسانيّة الطّويلة، وتفاعلها مع الأمَم غيرها، سواء كانت تجاربها بالصّدام الحاد أو اقتراب بفعل المصالح المشتركة.

وهناك مَثل عربي شهير جدًا، من لم يكن له أهل فليشتر أهلًا، يحمل موروثات القرون ومعبّأ بِخبرة الحياة الطويلة والتّحديات الكبرى، التي خاضتها وتخوضها هذه الأمّة المنكوبة منذ زمن طويل، وهو كالحكمة العربية يدعو إلى شراء الودّ واجتذاب الأصدقاء وإتّقاء أي شرّ مُحتمل، وتفضيل مدّ أواصر التّقارب على نسف الجّسور ونشر البغضاء والكراهية حول الإنسان، سواء في حياته الخاصّة، أو في حياة الأوطان العامّة والشّاملة.

وهذا المَثل الدّال على عقلية متفتّحة وذكيّة، ووعي سياسي قادر على مُقارعة الظّروف والتغيّرات، والتّعامل البنّاء مع العالم حوله، والاستفادة من فرص الوفاق وإمكانيّات الاتّصال، وكسب المواقف المبدئيّة بغير لجوء إلى صدام في غير محلّه، ولا وقته، يعدّ مقياسًا في الأداء العام للدّول ونظم الحكم المختلفة.
والدّول العربية في الحالة العالمية ليست قصة منفردة أو متمايزة، كلّ دولة وحدها دولة صغيرة، مهما بلغت مساحتها وامتدادها، ودولة فقيرة، مهما بدت من غزارة مواردها وتضخّم إمكانيّاتها، لكنّها كدولة تستند إلى عالمها العربي الواسع والعميق حولها يمكن لها أن تتحوّل إلى قوّة فارقة، سواء على مستوى الإقليم أو العالم الواسع خارجها.

بطولة كأس العالم التي تجري حاليًا في قطر، كشفت عن أهم مورد لدى الدول العربية، وهو العنصر البشري الواعي، الذي يفهم بالتّطبيق العملي ومع أوّل احتكاك إنّه جزء من أمّة واسعة، فرحها واحد وحزنها واحد، حتّى لو كانت هذه التّجربة في لعبة مثل كرة القدم، وفي وسط بطولة عالميّة تجري على الأرض العربيّة للمرّة الأولى، فتح انتصار السعودية على الأرجنتين في المباراة الأولى الباب لشعور عارم بالبهجة والقُدرة بين الجماهير المتواجدة في قطر، أو تلك التي تُتابع الحدث وتُعبّر عن مواقفها عبر مواقع التّواصل الاجتماعي، أو على الشاشات الفضائية العربية المختلفة.

أما الأغرب، والمفاجأة الحقيقيّة التي شهدتها أحداث البطولة خارج الملاعب، فهي التصرّفات الأوروبيّة البغيضة والحمقاء لمحاولة فرض ثقافة تتنافى والقيَم العربية والإسلامية، فإذا برغبة تلك الدول –عبر كرة القدم- في نشر فكرة قبول الانحلال الجنسي والشّذوذ، قد دفعت بالجماهير العربية المسلمة إلى التوحّد خلف كلّ فريق يقابلهم، سواء كان فريقًا مسلمًا أو إفريقيًا، في موقف يجسّد فطرة سليمة ومجتمعات لم تصل إليها شروخ السياسة، ولم تكسرها مؤامرات التّقسيم والفصل، والأمر ذاته ينطبق على رفض الوجود الصهيوني الإعلامي في المحفل العالمي، وتوجيه رسالة حادّة إلى حكومات الدول المطبّعة، أو التي بدأت سيرها في طريق التّطبيع مؤخّرًا.

كانت الرّسالة الواعية في إيجاز واختصار شديدين، أنّ الناس بوعيها الفطري وذكائها تعرف من هو العدو ومن هو الصديق، ومهما كانت المغريات أو المواقف فإن بوصلتها سليمة تمامًا، وقالت كلمتها بوضوح قاطع.

ربّما تكون بطولة كأس العالم هي أوّل تصويت مباشر للجماهير العربيّة، بهذا الحجم والتّنوع الهائلين، حول العلاقات الخارجية وسياسات أنظمتها الرّسمية، التي سارت مُهرولة في طريق الاستسلام غير المشروط للعدو الأوّل والحقيقي، وتحاول جذب الانتباه، عبر حملات إعلامية شرسة، إلى بعضها البعض أو إلى محيطها الإسلامي الواسع خارجها، سواء عبر اختلاق عداوات عربية- عربية أو عربية- إيرانية، ومحاولة فرض هذا العداء على شعوبها وعلى جدول عملها اليومي.

في الحقيقة، فإنّ الأنظمة الخليجيّة والعربية، وعلى العكس تمامًا، اختارت بعناد غبي أن تعكس المَثل القديم، أي أن لم يكن لك عدو، فلتشتر عدوًا، فعلت الدول العربيّة كلّ ما هو ممكن ومُتاح، وبكلّ ما تملكه أو تتمتّع به من إمكانيّات، لصالح صنع عداوة مريضة مع إيران، لا تفرّق في عداوتها بين شعب ونظام، ولا بين سياسي ووطني، عداوة دائمة دائبة، وعلى طول الخط، والأخطر من السّعي المحموم لتجذير هذه العداوة وحفرها بالدّم والنّار فوق جسد الذاكرة الحيّة للشعوب، فإنّها في المُقابل لا تحمل في رحمها أيّة احتمالات انتصار ولا تعني بأي حال الوصول إلى إنجاز، هي عداوة مجرّدة بائسة.

الغريب أنّ البوصلة التّلقائية والبسيطة جدًا، والتي أعلنتها الشّعوب الخليجيّة والعربيّة بشكلٍ عام، هي الأكثر تحقيقًا للمصلحة المباشرة والأساس لأي نظام حكم في أي مجتمع بشري، وهي البقاء، فهذه الأنظمة بطبيعتها وتكوينها مجرّد ظاهرة طارئة على صفحة الأحداث والعالم، لا تملك ما يُسندها من حقائق تاريخ ضارب ممتد، ولا هي تتمتّع بأبسط شروط الاستمرار والوجود، هي فقط ظواهر صنعتها تفاعلات قوى كبرى وصراعاتها على أرض الإقليم، ولم يضمن نشوؤها سوى ثروة مفاجئة تفجّرت من رِمال الصّحراء الجافّة.