خاص الموقع

أمّ المعارك والواقع السعودي

في 2023/01/17

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

يعزّ على أي متابع للشأن العالمي أن يعثُر على الكثير من الآمال في التّقارير الدّولية، خاصّة الاقتصادية منها، وأغلب مؤسّسات المال قد رفعت شعار الأسوأ لم يأتِ بعد، ومن البنك إلى صندوق النّقد الدّوليين، ومن مؤسّسة التّقييم "موديز" وغيرها، لا يبدو في الأفق شيئاً مؤكّدًا سوى المزيد من التضخّم وتراجع معدّلات النمو، حتّى أن توقّعات الكساد العالمي باتت هي العنوان الأبرز للمستقبل القريب.

في مثل هذه الظروف، تبدو الوقفة الوطنية مطلوبة، وقفة شاملة تحتاجها مسيرة أي عمل وطني، لتقييم السياسات ومساءلة الدفاتر ومراجعة الحسابات، تهدئة مطلوبة في أيّام عاصفة ومستقبل أكثر كآبة من أي توقّعات سابقة، وفي بلد يعتمد بشكلٍ كامل على إيرادات النّفط فإنّ التروي والتمهّل يعدّ شرطًا أساسيًا للخروج من شرنقة الوضع الخانق القائم والقادم، إذ أنّ تغيّرًا حادًا في سعر برميل النّفط لن يحمل المملكة إلّا إلى نكسة خطيرة.

في هذه الأوقات العصيبة لا تبدو الأزمة في المملكة إلا متعلّقة بمنظومة إتّخاذ القرار، القرار الفردي الذي يصفّق له موظفون خانعون ويجري تنفيذه بتسرّع واندفاع هو عين المشكلة وأصل الخطورة، وتجميل الواقع ليس إلّا خيانة للمستقبل والتّحديات القادمة، وتبديد موارد الحاضر هو الآخر خصم من إمكانيات عبور الغد، والحكم الرّشيد لا بدّ وأن يخاصم بل ويعادي هذه الفردية القاتلة، التي لم تحمل سابقًا لأي دولة سوى الخراب العاجل والأكيد.

الواقع الحالي في المملكة غارق في البؤس، ويبعث على الاكتئاب لا السخرية، جنّدت وحشدت كلّ مصادر الثّروة والقدرات والخُطط لخلق "وطن موازي"، بلد مزيّف حيث التّرفيه هو الهدف والسبيل والغاية، مباراة بين أغلى نجوم العالم رصدت لها مليارات الدولارات، واستضافت بطولات وهميّة للمصارعة التمثيليّة أنفقت عليها مليارات أُخرى أكثر، مواسم للاختراق الثّقافي وتبديل هوية المجتمع الإسلامي تجري على قدم وساق، وخلق احتياجات مزيّفة للمواطن، والسّعي إلى إشباعها وتحقيقها مهما كانت التّكاليف ومهما بلغ الهدر، وصناعة مجتمع جديد باستخدام مفاهيم جديدة للحياة، إمّا إنّها مزيّفة مزوّرة بذاتها، وإمّا إنّها تدور حول دعايات مغشوشة وأوهام مصطنعة.

والتاريخ يعلّمنا أنّ نهاية طريق الخيال المريض مهلكة في التيه أو مذبحة في العراء، في الثاني من آب/ أغسطس عام 1990، تسبّب قرار واحد لرجل واحد في تغيير شكل الشرق الأوسط، الذي كنّا نعرفه، وانحدار هائل ومستمر للدول العربية، من السيئ إلى الأسوأ، ومن التفتّت إلى الانهيار، وفي لحظة واحدة قاد صدام حسين بلده العراق إلى أكبر وأعمق عملية خراب مكثّف عرفها التّاريخ لدولة، كانت قوية وكانت تملك أسبابًا لمستقبل واعد.

وحتّى بعد فرصة نادرة قدّمتها الأيام وتوازنات القوى العالميّة القائمة، وقتذاك، للتّراجع أو المساومة، لم يقبل صاحب القرار فيه مناقشة أو تنازلًا، رغم الشّواهد التي كانت تتجمّع حوله وفوقه، وتُنذر بعاصفة لا تُبقي ولا تَذر، واستمرّ العِناد حجابًا ثقيلًا وستارة سوداء على العيون، حتّى وقعت واقعة حرب الخليج الثّانية –تحرير الكويت- بَداية من يوم 17 كانون الثاني/ يناير 1991، بقيادة الولايات المتّحدة ومشاركة 33 دولة غيرها.

في هذه الفترة، التّحضير والحشد للحرب التي قادتها واشنطن دبلوماسيًا وعسكريًا، وضع السّفير السعودي السّابق في أميركا تقدير موقف بسيط أمام الملك السّابق فهد، قال فيه إنّ صدام كان يتصوّر أنّ الولايات المتّحدة لن ترغب في الدّخول إلى صراع عسكري، ثمّ إنّ الملك فهد لن يقبل بدخول قوات أجنبية ضخمة إلى أراضيه، ولن تتمكّن الولايات المتّحدة حتّى إن رغبت في حشد القوّة الكافية لإجباره على الخروج من الكويت، وفي حال فشل كلّ رهاناته السّابقة، كان يضع خط دفاعه الأخير على موقف سوفييتي قادر على منع الحرب عليه، وهو فوق عجزه عن رؤية الحقائق العالميّة أمامه، كان يضع مستقبل بلده وحاضرها معلقًا على رهانات، ثبت بؤسها وخيبتها. 

دمّرت الولايات المتّحدة العراق كلّه، لم تفرق صواريخها وأسلحتها فائقة الذّكاء في أهدافها بين مدنيين وعسكريين، وكانت تركّز أصلًا على قصف البنية التّحتية للبلد العربي، من مولدات الكهرباء إلى مصافي النّفط ومحطّات المياه، وكلّ ما يمكن أن يشلّ الحياة، وبتعبير الرّئيس الأميركي جورج بوش الأب، فقد أرادت واشنطن "إعادة العراق إلى العصر الحجري"، ونجحت فعلًا في ذلك، ثمّ وجّهت ضربة انتقامية غير مسبوقة للجيش العراقي المُنسحب فيما عرِف بطريق الموت، تلقّنه درسًا أخيرًا بأن لا يتجاوز حدوده مرّة أُخرى، وكما كان الدّرس أليمًا كان الثّمن فادحًا.

وفي مواجهة الهزيمة والحصار والدّمار، كان الإعلام العراقي يرفع شعار "أمّ المعارك"، تسمية صدام الخاصّة لحرب الخليج الثّانية، وبلغ الانفصال عن الواقع مداه إلى الحدّ الذي تحوّلت معهُ الحرب إلى انتصار كبير، وأوسمة وأنواط عسكرية للأبطال! وظلّت الدّعاية العراقية طوال 13 عامًا تكذب وتكذب حتّى صدّقت نفسها، بل وطالبت الآخرين بتصديق ما تقول والإيمان به، تحوّلت المأساة إلى مفخرة وطنية عظمى، وصارت الكارثة نيشانًا براقًا جديدًا على زي القائد المهزوم، في سابقة لم –ولن- تعرف الإنسانيّة لها مثيلًا.