خاص الموقع

المملكة السعوديّة بين الخديعة وتقدير الموقف

في 2023/03/11

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

منذُ نشأة الإنسان الأولى على الأرض، اكتشف أنّه يخوض صراعًا دائمًا ويوميًا من أجل الدّفاع عن بقائه، بتأمين احتياجاته ومتطلّباته، وبمروره من زمن الجمع والالتقاط، وهو نشاط يكفي أن يكون فرديًا، إلى مرحلة الصيد التي تتطلّب الجماعة وما استُدعي فجأة من ضرورات التّنظيم وتقسيم العمل وابتداع الأدوات المناسبة للتّغلب على حيوانات قد تكون أضخم منه وأقوى، كان هذا الكائن، وبلا خبرات أو تجارب سابقة، يضع الفارق الأوّل بينَه وبين غيره من المخلوقات.

كان الإنسان القديم قادرًا على وضع ما يمكن تعريفه اليوم بـ "تقدير موقف"، لكلّ خطوة وحركة لنَفسه وللمجموعة التي يَنتمي لها، فالرّمح المَقذوف –وهو يدمي أو يقتل- أصلح مع الكائنات الأكبر، والشّباك أو الفخاخ الذكيّة أجدى مع حيوانات أصغر أو أسرع، وتبعًا للهدف المطلوب والأدوات المُتاحة والمساحة التي يغطّيها نشاطه، يُغيّر تكتيكاته وخططه، وبالتّجارب المُتتالية وبصقل الخبرات وبالتّعلم المباشر المستمر، يستطيع أن يطوّر من طرق عيشه وأساليب الحصول على ما يُريد.

ومع التطوّر الإنساني، وتطوّر العلوم والمعارف وآليّات العصر الحديث، انتقلت هذه الفكرة البسيطة لتُصبح أحد أركان العلوم العسكريّة في العالم كلّه، ويتحوّل معها التقدير الإستراتيجي إلى باب قائم بذاته، تتوافر عليه وتخدمه إدارات وهيئات ومجموعات عمل، ضمن كلّ مؤسّسة عسكريّة في كلّ دولة، وتتشعّب طُرقه وأساليبه وأهدافه، وهو في هذا كلّه تحوّل إلى شرط لعمليّة القرار العسكري، وبالطّبع يفهم هذا الحرص البالغ عليها، بسبب التّكاليف الباهظة لحركة الجيوش الحديثة، واحتمالات الخطر والصّدام المُرهقة في حال خطوة واحدة غير منضبطة أو محسوبة.

ويُعرف مُصطلح تقدير الموقف الإستراتيجي، حاليًا، بأنّها عمليّة تستهدف توفير الرّؤية السّليمة لمنح القيادة التّوجيه السّليم والقُدرة على الرّؤية الصّحيحة، بهدف اتخاذ قرار يُراعي الإمكانيّات والقدرات المُتاحة، ويُحقّق في النّهاية الأهداف المطلوبة والنتائج الموضوعة، بأفضل وأكفأ السّبل وأكثرها تلاؤمًا للأوضاع والظّروف المُحيطة، مع مُراعاة تحقيق أقصى وِفر في عنصرَي التّوقيت والتّكلفة، وأن تكون الخُطط قابلة للمرونة لمواجهة أي عائق طارئ أو ظَرف مُستجد على صفحة الأحداث.

وتتحدّد درجة كفاءة عمليّة تقدير الموقف وفقًا لتوفر 6 عوامل أساسيّة، لا يُمكن أن تستقيم بدون وجودها لدى متّخذ القرار، وهي جمع المعلومات الكافية، العقلانيّة أي استخدام المنهج العلمي فى التّفكير ابتداء، الاستمرار في متابعة كلّ طارئ ومُتغيّر على الخطوط وفي المواقع، التمسّك بالرّشد، بلا تسرّع أو عشوائيّة، والإلمام بالبيئة المُحيطة ومُلاحظة كلّ تأثير جديد عليها قد يعوق تنفيذ القرار أو يغيّر الأوضاع القائمة، والمرونة، فهى ليست عمليّة جامدة، بل هي تتطلّب في صُلبها القُدرة على الحَركة التّكتيكيّة سواء للأمام أو الخلف، للوصول بأكفأ الطّرق وأقلّ التّكاليف إلى الهدف المطلوب.

والملاحظ أنّ هذه العمليّة المعقّدة، تحدث يوميًا في حياة كلّ إنسان، فالموظّف على سبيل المثال يضع تقديره لموقف شهر كامل لتوفير احتياجاته وفقًا لراتبه ودَخله، وسيّدة المنزل تجري حساباتها لبيتها الصغير وأسرتها، بناءً على خبرتها وتجربتها، لكي لا تقع في فخّ العجز بين مشتريَاتها وما تملكه فعلًا، مع التحسّب للمفاجآت غير السارّة، والتي تقع أحيانًا، مهما كانت درجة التحوّط، وغالبًا ما تنجح السيّدات في هذه المهمّة بجدارة، هذا دون دراسة طويلة لتعقيدات نظريّة، أو معرفة من الأصل بالفكرة المعقّدة تلك.

الغريب أنّ هذه الأفكار التي أَثبتَت جَدارتها وقُدرتها على مَنح أيّة قيادة الفُرصة للمُوازنة بين تحقيق أهدافها وبين مَواردها المُتاحة تغيب بالكلية عن مشهد المملكة العربية السعودية، من الظّلم أن نعتقد أنّ نظم الإدارة الحديثة تَعرف طريقها إلى عقول أغلب من يديرون هذا البلد، ومن البؤس الشّديد أن نظنّ أنّ هناك سياسات موضوعة من الأصل، يجري العمل بناءً عليها وسعيًا إلى تحقيقها.

قبل أيّام أعلنت الهيئة العامّة للإحصاء في المملكة، وهي الجهة المنوط بها إصدار بيانات الرّصد والإحصاء الرّسمية، أنّ النّاتج المحلّي الإجمالي للمملكة قد تجاوز –لأوّل مرّة في التّاريخ- عتَبة التريليون دولار، خلال العام الماضي 2022، وهو رقم لا شك مُذهل، إذا ما أضَفنا إليه أنّ معدّل النمو المتحقّق قد وصل إلى 8.7%، وهو أعلى معدّلات النمو التي حقّقها الاقتصاد منذ 11 عامًا.

أي متابع، ولو من بعيد للشّأن الاقتصادي السّعودي، يُدرك على الفَور وهو يقرأ هذه الأرقام أن مردّ الفائِض المُذهل المُحقّق يعود إلى الارتفاع التّاريخي في أسعار النّفط، كما كان بالضّبط العجز طوال السنوات الست الماضية بسبب تراجع الأسعار، أي أنّ ما حدَث –ببساطة- لم يكُن مُعجزة سماويّة أو تخطيطًا بارعًا، الحوادث التي أشعَلتها الحَرب الروسية في أوكرانيا منحت البَعض الآلام، ووفّرت للبعض الفرَص والمُصادفات السّعيدة.

ما يَجري في المملكة، من احتفاء بالأرقام ونشوَة دفعت إليها فرحة زائفة، ووهم عام يجد في وسائل الإعلام من يروّج ويهلّل، ويستثمر الأمان الكاذب في مُناخ القلق الحالي، لكن درس التّاريخ قائم لكلّ من يتجاوز في الخداع، فالتّاريخ ليس أمنيّات تُطلب بغير أثمان، ولا هو معملًا معقمًا تجري فيه التّجارب خارج السّياق، وهو دائمًا لا يسير حسب قائمة الظّنون والتّمنيات الرومانسية السّاذَجة.