خاص الموقع

طوفان الأقصى وأوهام التّطبيع

في 2023/10/16

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

يمكن القول بثقة واطمئنان، بكل يقين وصدق، إنّ بعض القادة أو الحكومات قد تصرّفت في تاريخها على نحو بالغ الحماقة، ومنحتنا دروسًا مجانيّة وشاملة في ما يمكن للاندفاع المتهوّر أن يصل إليه بالدّول من مصائر مروّعة وهزائم مخيفة، على نحو ما يمكن الإشارة إلى قرار اليابان بضرب القاعدة العسكريّة الأميركيّة في "بيرل هاربر"، أو قرار حليفها "أدولف هتلر" بالدخول إلى الاتّحاد السّوفياتي، وكلاهما حملا النهاية المنطقيّة للنظامين النازي في برلين والعسكري في طوكيو، بعدها بسنوات قليلة جدًا.

لكنّ القرار الأكثر تمثيلًا بالغباء وسوء التقدير وخطأ التوقيت والعمى السّياسي في المنطقة العربيّة، كان هو قرار وليّ العهد السّعودي بالقيام بخطوة التّطبيع مع إسرائيل، قبل أسبوعين فقط، أو لعلّه الاجتماع المأساوي النّادر بين سوء الحظ وسوء التقدير، في شخص واحد وفي لحظة معينة.

جاء الردّ الفلسطيني على توجّه وليّ العهد السّعودي "محمّد بن سلمان" بإعلانه عن عملية "سلام" مع إسرائيل، نظير إطلاق عمليّة مفاوضات على الجبهة الفلسطينيّة، بأسرع وأقوى كثيرًا ممّا توقع أكثر المتشائمين، فأتى "طوفان الأقصى" ماردًا جبارًا، يمارس أقصى درجات القدرة والرفض والمقاومة، وكسر كلّ ما كان يُحاك للقضية المركزية للعالمين العربي والإسلامي.

ببساطة وبوضوح كاملين، جاء "طوفان الأقصى" على صورة انقلاب هائل في حسابات الدّول كلّها ومعادلات القوة الفاعلة والقادرة فيها، ضربة ثقيلة ومؤثرة إلى أقصى الحدود في أي مستقبل ممكن لإسرائيل على جثة الشّعب الفلسطيني، وقبلها أو معها عدة تغيّرات كبرى ستخلّف من ورائها شكلًا جديدًا للعالم العربي، شاء من شاء وأبى من أبى.. مستقبل جديد لا يحمل من القديم أية شبهات أو ضرائب.

اختار "ابن سلمان" أن يخترع عصرًا جديدًا، ليس في المملكة فحسب، وإنّما صوّر له خياله إمكان تحديد مستقبل للعالم العربي أو كتابته بشروطه وتحت الرعاية الأميركيّة والإسرائيليّة، بإقدامه على خطوة لم يسبق لحاكم سعودي أن فكّر بها، وهي سلام كامل وشامل مع إسرائيل، مقابل حماية أمنيّة دائمة لنظامه -وله شخصيًا- وحاول أن يستر عورة الاتفاقيّة المذلة بشرطين آخرين، امتلاك برنامج نووي سعودي، وتحريك عملية سلام بين إسرائيل والسّلطة الفلسطينيّة في رام الله.

بعد نشر لقاء وليّ العهد على قناة "فوكس" الأميركيّة؛ جاءت التصرفات والعربدة الإسرائيليّة في القدس الشّريف مباشرة، ولأيام طويلة مارست فيها إسرائيل وقطعان مستوطنيها أشدّ درجات الفجر في ساحة المسجد الأقصى المبارك، مع طقوس توراتية زاعقة، كانت تقول ومباشرة إنّ المتطرفين يخطّطون لعمل دنئ تجاه المدينة المقدسة ومسجدها، مستفيدة من مناخ عربي قد أعلن مقدمًا استسلامه وقبوله بالدخول في بيت الطاعة الإسرائيلي.

العمل العربي المبدع والجريء قادر بسهولة أن يكشط قشرة الوهم عن بيت العنكبوت الإسرائيلي، والعمل الجماعي الجاد والمنظّم قادر على أن يهزم أيّة أزمة أو مشكلة عربيّة.. واستيراد أعظم منجزات الغرب من السّلاح أو السّلع لن يصنع على الإطلاق معجزة ما، لا في فلسطين ولا في غيرها، والإيمان بقدرة الإنسان العربي الخلاّقة هو شعار أي حاكم وطني ناجح، ويملك أدنى درجات الذكاء، الأدنى على الأقل.

أفضل ما في القصّة هي أنّ القيادة السّعودية رأت التغير الهائل الواقع في المنطقة، وعاينت أيضًا الغضب الواسع من "مجازر الصهاينة" في حقّ الفلسطينين، وأن النّظام السّعودي قد أوقف مهزلة التّطبيع ومذلّته، خاصة مع الأميركي، تحت ذريعة أنّ الوقت غير مناسب.

كما أنّ خطاب الخارجيّة السّعودية لا يترك مجالًا للشكّ في أنّها فضّلت الاستجابة الحسنة لتطلّعات شعبها والجرائم التي تجري بحقّ فلسطين، وردت –كما يردّ الحرّ- على توصيفات المسؤولين الإسرائيليين لنا بكوننا "حيوانات"، هذا النهج والفهم والتغيير يستحقّ الإشادة مبدئيًا، مهما كان اضطراريًا، ومهما كانت عوامل أخرى قد حملت صاحب القرار إليه.

ما تحمله إلينا معركة "طوفان الأقصى"، المستمرة منذ يوم 7 تشرين الأول الجاري، بين الفصائل في غزة المحاصرة، والدولة المدعومة من الغرب كلّه، إنّ هذه الدّولة الهشة البائسة المؤقتة، لم يعد هناك جدوى من الرهان على بقائها من الأصل، فضلًا عن إمكانات منحها أدوارًا إقليميّة معينة، وهي –الآن وفعلًا- لا تملك من أمر نفسها أمام المقاتل الفلسطيني شيئًا، ولا يمكن تصوّر أن يراهن أي نظام على وجوده طرفًا في معادلة المستقبل أساسًا.

الوهم الثاني الذي بدّدته المقاومة الفلسطينية، بجرأتها اللافتة، أنّ كل ما أدّعته إسرائيل أو الغرب بشأن تفوّق للعقليّة اليهوديّة هو محض هراء، والذكاء الفلسطيني ربح الجولة بتخطيط سليم واستخدام راقٍ ومبدع للسّلاح والإمكانات القليلة أو النادرة في قهر اسرائيل، مثالان بسيطان وواضحان فقط، استخدم الفلسطيني طائرات شبه بدائيّة لاختراق خطوط إسرائيل وتحصيانتها حول غزة، ولأنّها من الخشب والقماش وموتور بسيط، لا تحوي أجزاء إلكترونّية، مكّنها من نقل عشرات المقاتلين من دون أن تثير أجهزة الرادار والرصد المتطوّرة التي تملكها إسرائيل. 

كما أنّ المفاجأة الفلسطينيّة في اقتحام الدّفاعات الإسرائيليّة قد حوّل أسطورة أخرى، هي الميركافا-كانت إسرائيل تؤكّد مرارًا أنّها قلعة تسير على الأرض ولا يمكن تدميرها- إلى نعوش لطواقمها، فقد أجاد المقاتل العربي الفلسطيني استهدافها باستخدام قواذف تقليديّة، ربما يعود بعضها لحقبة الحرب العالمية الثانية، لكنّها بالكفاءة اللازمة والدقة الاستثنائية استطاعت قهر أسطورة إسرئيل وحرقها.