خاص الموقع

السعودية.. الغلاء والغباء في الشهر المبارك

في 2024/03/19

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

تمنحنا قراءة صفحات التجارب معاينة مجانية وثمينة للآثار الاجتماعية المذهلة للقرارات السلطوية الغاشمة ذات المدى البعيد، خاصة إذا جاء القرار/ القانون محاولةً غبية لحلّ مشكلة واحدة، فإذا هو يزيدها تعقيدًا وصعوبة، ويخلق من الفراغ ما يشبه المأساة. هذا هو تعريف الاقتصادي الألماني  "هورست سيبرت"، في كتابه الأشهر "أثر الكوبرا"، عن العواقب غير المقصودة لقرار اقتصادي أو سياسي تفوق تداعياته حجم المشكلة الأصلية.

قصة "أثر الكوبرا" ملهمة بحدوثها في الهند، بلد العجائب والتناقضات، خلال الاحتلال البريطاني الطويل وفي سنة 1919، حين عانى المستوطنون والموظفون الإنجليز الأمّرين بسبب لدغات أفعى قاتلة. فلجأت الحكومة إلى "حل عبقري" وهو منح مكافأة مالية لكل من يصيد الكوبرا. وفي مجتمع شديد الفقر والحاجة وأسير الجهل، سرعان ما استغل المواطنون الهنود الفرصة السانحة فبدأوا بإنشاء مزارع لتكاثر الكوبرا، وحين أدركت الإدارة البريطانية ذلك أوقفت البرنامج، بالاندفاع ذاته الذي بدأته به، وكانت المحصّلة النهائية أن الهنود أطلقوا ما لديهم من أفاعٍ سامة أصبحت بلا قيمة، فزاد تعقيد الوضع وصعوبته على الإنجليز، ثم صارت تلك القصة مثالًا حيًا على أحد أهم فنون علم الإدارة، أي دراسة نتائج القرارات قبل التورط في إصدارها.

لقد واجهت المملكة العربية السعودية، قبل حلول شهر رمضان المبارك، أزمة قد تبدو بسيطة أو يظهر حلها في المتناول، وهي أزمة التضخم وغلاء أسعار كل السلع الغذائية الأساسية بشكل مفزع، وهي نتيجة طبيعية ومنتظرة لتضافر عوامل عدة زادتها اشتعالًا وعمقت من تأثيرها. وهي أولًا: أزمات التضخم في الاقتصاد العالمي كله، ثم الصراعات المسلّحة الناشبة في أكثر من نقطة حيوية، والشكوك التي تضرب سلاسل الإمداد العالمية وتعطلها، حيث تزيد من تعقيد عمليات النقل والتجارة الدولية، ثم أخيرًا: الفوضى التي تحكم الأسواق في السعودية، والغياب الكامل والتام لأي سلطة رقابية على الشركات وتجارة التجزئة خصوصًا، وعدم التوقع المسبق للتزايد المعتاد في الاستهلاك خلال هذه المرحلة، وعدم الاستعداد له قبل مدة كافية بشكل حاسم.

قبل حلول الشهر الفضيل بأسابيع عدة، وبالتحديد منذ شهر شباط/ فبراير الماضي، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تضج بالشكوى من ارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار، وبالذات في المأكولات والمشروبات. وهذا ما أكدته التقارير الرسمية عن ارتفاع معدل التضخم في المملكة. وكانت متوقعًا أن تتواصل هذه الموجة مع حلول شهر رمضان المبارك، وما يرتبط به من احتياجات واستهلاك، هذه القصة كلها بديهية لدرجة أن الاضطرار لإعادتها سنويًا لا يعني سوى البؤس، البؤس الشديد، الجميع كالعادة يعلم إلا الحكومة، تعيش في كوكب آخر.

أخيرًا؛ أطل "الحل العبقري" عبر قرار ملكي بإعادة صرف علاوة غلاء المعيشة، بداية من شهر آذار/ مارس الجاري، وذلك بصرف 1000 ريال سعودي لموظفي القطاع الخاص والحكومي، 500 ريال سعودي لأصحاب المعاشات يضاف إلى راتبهم الأساسي، 5000 ريال سعودي للعسكريين، وللمستفيد من الضمان الاجتماعي 500 ريال سعودي، وهي تأتي مكملة لإعلان الملك سلمان صرف أكثر من 3 مليارات ريال سعودي لمستفيدي الضمان الاجتماعي، بمبلغ 1000 ريال للعائل، و500 ريال للتابع، وهي تمثل "منحة شهر رمضان" طبقًا لتصريحات وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية أحمد الراجحي.

الإجابة على سؤال يؤرق كل بيت سعودي كان زيادة مالية مؤقتة، مهما بلغت قيمتها ومهما طال مداها الزمني. وهي كما اعتدنا مع الأسواق والتجار والحكومة ستكون شيكًا على بياض لزيادة جديدة في الأسعار التي ستلتهمها، قبل أن تبتلع غيرها، وتفكير الدولة في هذا الإطار لا يخرج عن الصورة النمطية لفكرة العطايا والمنح الكريمة، وهي بالأصل إجابة خاطئة على واقع صار مستنقعًا لكثرة الخطايا فيه.

كان من الممكن والمنطقي للدولة أن تفكر بمنطق المستقبل في فرض متكرر، وتاليًا تملك جرأة الرؤية والخيال لحلّ هذه المعضلة، كل ما هو موجود في الأسواق السعودية مستورد، فهل ستظل المملكة أسيرة لتقلبات الأسعار العالمية وتتأثر سلبًا ودائمًا بكل نزاع أو تهديد أم تملك شجاعة الإصرار على نقل الاقتصاد من النفط إلى الإنتاج والصناعة والزراعة، بما يشكّله من معنى الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي القادر على امتلاك قدرة المناعة والدفاع الذاتي أمام غول الشركات العالمية وحساباتها وأرباحها؟

القضاء على أزمة الفقر بطريقة المنح هي أمر أشبه بإطعام تمساح شرس يوميًا، المساعدات ستزيد من الإنفاق الاستهلاكي، وسترفع بالتالي من منحنى الطلب. ومع ثبات العرض، الأسعار تلقائيًا سترتفع، والحلّ الناجع لهذه المشكلة في تحوّل الدولة إلى منظم ومشرف على اقتصاد إنتاجي واسع يسمح بمشاركة رواد الأعمال الشباب والنماذج الملهمة والناجحة كثيرة، أهمها على الإطلاق برنامج "الرفيق الدائن" في البرازيل، بتحويل هذا الفرد المحتاج إلى فرد منتج، وهو حلّ جذري للأزمة، فهل من معتبر؟!!