ح.سلفية » داعش

العدو الأمريكي المفضل

في 2015/07/31

عاصم عبدالخالق- الخليج- لـ «أمريكا» دائماً عدو، فإن لم يكن لديها، فهي تصنعه. لا تستطيع هذه الدولة الأمة أن تعيش بلا تهديد وبلا أعداء. وجودهم ضرورة قومية وحتمية تفرضها متطلبات السياسة الخارجية والداخلية، ودواعي تشكيل وحشد الرأي العام، ومستلزمات صناعة القرار واستخدام القوة المسلحة خارجياً لتنفيذ أهداف سياسية محددة. وقبل كل هذا وبعده، فإن العدو مطلوب لإنعاش وبقاء مؤسسة الصناعات العسكرية الضخمة، ودوران عجلة الاقتصاد بالتبعية.

ولأن العلاقات الدولية والمصالح متغيرة بطبيعتها، فمن المنطقي أن تتغير معها خرائط التحالفات والعداوات. كانت اليابان على سبيل المثال قبل الحرب العالمية الثانية أعدى أعداء الولايات المتحدة، وأصبحتا حليفتين على أشلاء ملايين اليابانيين الذين قتلتهم وشوهتهم القنبلتان النوويتان الأمريكيتان عام 1945. وبعد أن كان الاتحاد السوفييتي حليفاً عسكرياً وسياسياً للولايات المتحدة، وحاربا معاً ضد النازي، وجدت واشنطن أنه من الضروري أن تناصبه العداء بعد الحرب العالمية الثانية بسبب طموحاته القومية، وتمدده سياسياً وعسكرياً خارج حدوده، فضلاً عن الاختلاف العقائدي الجوهري بين رأسماليتها وشيوعيته.

ولم تستمر العداوة للشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث حل محلها التهديد الإسلامي، أي الخطر الأخضر بدلاً من الخطر الأحمر.

هذا الاستدعاء التاريخي السريع يفرض نفسه في هذا التوقيت، بعد أن بدأ الإعلام الأمريكي يطرح سؤالًا جوهرياً هو: هل ستخرج إيران من قائمة الأعداء الأمريكيين بعد الاتفاق النووي الأخير معها؟ وإذا لم تكن إيران هي عدو المرحلة فمن يكون؟. السؤال ناقشه الكونجرس الأمريكي أيضاً الأسبوع الماضي مستفسراً عمن هو العدو الأكثر خطورة على الولايات المتحدة الآن.

الإجابة قدمها اثنان من كبار قادة الجيش، وكانت مفاجئة للكثيرين الذين توقعوا أن يكون الإرهاب والتطرف الإسلامي هو التهديد الأول بحكم كونه العدو المفضل دائماً بالنسبة لصانع القرار والسياسيين. وهو العدو الذي يسهل إقناع الرأي العام بخطورته واستثمار تهديداته الحقيقية أو المزعومة لتبرير أي سياسيات داخلية وخارجية تحتاجها الحكومة وجماعات المصالح.

غير أن العسكريين الذين لا تعنيهم كثيراً الاعتبارات السياسية بقدر ما يتوقفون أمام الحقائق الواقعية وموازين القوى، ونوع التهديدات المحتملة والقائمة كان لهم رأي آخر مختلف تماماً. اعتبر هؤلاء القادة أن روسيا دون غيرها هي أكبر تهديد للولايات المتحدة، ومن ثم فهي العدو الأول لها. أما السبب فهو أنها تملك إمكانيات وقدرات عسكرية تكفي لتدمير الولايات المتحدة تماماً إذا قررت ذلك.

قد يرى البعض أن هذه الإجابة تعود بخريطة العداوات الأمريكية إلى عصر الحرب الباردة. وأنها تمثل تقييماً كلاسيكياً لطبيعة التهديد الخارجي بصرف النظر عن إمكانية حدوثه. بمعنى آخر أنه إذا كانت روسيا تمتلك بالفعل القدرة على تدمير أمريكا فإنها لا يمكن أن تلجأ إلى ذلك بحكم قوة الردع الأمريكية التي تكفل إلحاق قدر مساوٍ من الأذى بالأراضي الروسية في المقابل، وهو توازن الرعب التقليدي الذي حفظ السلم العالمي طيلة الحرب الباردة.

كل هذا قد يكون صحيحاً، ولكن طموحات موسكو الأخيرة وضعت التهديدات الروسية في المقدمة مرة أخرى من وجهة نظر العسكريين. يضاف إلى هذا الرأي العلمي والعسكري القائل إنه يجب اختيار وتحديد العدو على أساس ما يمثله من تهديد، وليس الشعور السائد بالكراهية تجاهه. ووفقاً لهذا المقياس فإن روسيا تكون هي العدو الأول وليس الإرهاب الإسلامي أو إيران أو غيرهما.

وقد عبر عن هذا المعنى بوضح الجنرال باول سيلفا المرشح لمنصب نائب قائد الأركان المشتركة. وفي شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ قال إنه يمكن ترتيب مصادر التهديدات التي تتعرض لها الولايات المتحدة على النحو التالي: روسيا ثم الصين فإيران تليها كوريا الشمالية ثم أخيراً وفي المركز الخامس سائر المنظمات التي خرجت من العباءة الأيدلوجية للقاعدة.

وعندما سأله السناتور البارز جون ماكين عن السبب في وضع هذه التنظيمات في ذيل القائمة وليس في صدارتها أجاب بأن تلك الجماعات لا تمثل تهديداً آنياً وواضحاً للأراضي الأمريكية مثل روسيا، التي لم يكتف باعتبارها العدو الأول، بل اعتبر أنها تمثل تهديداً وجودياً لبلاده.

لم تختلف قائمة سيلفاً كثيراً عن أخرى تحدث عنها قبله بأيام أمام نفس اللجنة الجنرال جوزيف دونفورد المرشح لقيادة الأركان المشتركة الذي اعتبر أن السلوك الذي أظهرته موسكو تجاه أوكرانيا وأوروبا الشرقية يمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، وكرر عبارة سيلفا عن التهديد الوجودي.

لا يختلف باقي القادة العسكريين الكبار في تقييمهم للتهديدات أو العدو المفضل من وجهة النظر العسكرية وليست السياسية. إلّا أن منهم من يضيف تهديدات أخرى مثل الجنرال دارين مكديو المرشح لقيادة قطاع الاتصالات والنقل في الجيش الأمريكي، وكذلك جيمس كلابير مدير الاستخبارات الوطنية، وكلاهما يعتقد أن أكبر تهديد يواجه الولايات المتحدة حالياً هو تعرضها لهجوم مباغت من الفضاء الإلكتروني عبر الإنترنت. وأن مثل هذا الهجوم يمكن أن يصيب قطاعات الاتصال والمواصلات وسائر الأنشطة الاقتصادية بالشلل الكامل.

المشكلة الأساسية هنا أن مثل هذا الهجوم يمكن أن يقوم به أفراد معدودون وليس تنظيماً كبيراً بحجم «داعش» أو «القاعدة». كما أن المهاجمين يمكن أن يكونوا في دولة صديقة أو حليفة. وقد يطلقوا هجومهم الإلكتروني من جزيرة منعزلة في المحيط الهادي أو أحراش إفريقيا أو أصقاع القطب الشمالي أو حتى من الأراضي الأمريكية ذاتها. إنه العدو المجهول والخفي، ولذلك فهو الأشد خطراً، وهو عدو المستقبل بلا منازع.