مجتمع » تعايش

الدولة القطرية والهوية الوطنية والمواطنة

في 2015/08/28

مروان المعشّر- مركز كارنيغي للشرق الأوسط- إحدى نتائج الثورات العربية الماثلة أمامنا بكل وضوح، هي تآكل الدولة القطرية في أجزاء متعددة من الوطن العربي. إذ كيف يمكن لنا اليوم أن نتحدث عن استمرار الدولة القطرية في سورية أو ليبيا أو اليمن؟ وحتى دولتان كالعراق ولبنان تواجهان أزمات حكم باتت فيها غير قادرة على السيطرة على أراضيها كافة. وفي حين كانت الدول القطرية سابقاً تتوق إلى الاندماج في أوعية أكبر لتحقيق حلم القومية العربية بوطن عربي موحد، فقد بتنا نشهد اليوم بروز لاعبين فاعلين ما دون الدولة، مثل تنظيم "داعش" والمليشيات الشيعية في العراق وحتى حزب الله في لبنان، باتوا يهددون ليس مفهوم الدولة القطرية وحده، ولكن أيضاً مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم المواطنة.

لا يأخذنا التحليل طويلاً لإدراك أن العديد من الدول القطرية في الوطن العربي كانت أوعية شبه فارغة، لأنها بنيت على أسس ضعيفة. فبدلاً من بناء المؤسسات الديمقراطية ومفاهيم حديثة للهويات الوطنية والمواطنة، استعيض عن ذلك بأنظمة فرضت الاستقرار الأمني بالقوة وبشكل مصطنع، أو اعتمدت المحاصصات الطائفية التي لا تنمّي شعوراً حقيقياً بالمواطنة. وعندما وقعت الواقعة، لم تجد هذه الدول مؤسسات تحميها، ولا مواطنين يدينون بالولاء لها وليس لطوائفهم أو هوياتهم الفرعية؛ فشهدت انهياراً سريعاً لأبنية هشة لم تحتمل الهزات التي اعترت البلاد.

مروان المعشّر نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الدبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والاتصالات.

هل هناك أبلغ من هذه الدروس ان أردنا أن نبدأ بداية جديدة؟ هل نحتاج إلى هزات أكبر قبل أن ندرك أن الاستقرار الحقيقي لا يعتمد على الأمن وحده، وإنما على التنمية أيضاً؛ وعلى مفهوم حداثي للهوية الوطنية الجامعة التي تسمو على أي هوية فرعية؛ كما على مفهوم حداثي أيضاً للمواطنة، تشعر من خلاله مكونات المجتمع كافة بأن حقوقها محفوظة، فلا يتغول عليها أحد؛ وعلى بناء متين لمؤسسات الدولة، يستطيع الصمود أمام كل الهزات، لأنه سيجد مواطنين وليس اتباعا مستعدين للوقوف يداً واحدة ضد الأخطار الخارجية، بدلاً من انشغالهم في صراعاتهم الداخلية؟

لقد أثبتت الاضطرابات أن الأوطان لا تحمى بالأناشيد الوطنية والعنتريات، بل بالمؤسسات الراسخة؛ وبترسيخ مفهوم المواطنة الجامعة.

الحمد لله أننا في الأردن في وضع أفضل بكثير من العديد من الدول حولنا. ولكن هذا لا يعني الاسترخاء، لأننا بحاجة إلى ولوج مرحلة جديدة، يكون فيها بناء المؤسسات التعددية أولى الأولويات؛ من قانون انتخاب جديد يبتعد عن "الصوت الواحد" ويبدأ بالتأسيس لمجلس تشريعي قوي، إلى خطة اقتصادية تبتعد تدريجياً عن النظام الريعي وتؤسس لاقتصاد ذاتي النمو مستدام، يشجع الإنتاجية والابتكار والاستثمار، كما ينادي بذلك جلالة الملك، إلى نظام تربوي مختلف جذرياً عن النظام الحالي، لناحية الحاجة إلى تشجيع النشء على التفكير النقدي والمساءلة والإبداع واحترام مكونات المجتمع والآراء المختلفة جميعاً.

لا بد من الاعتراف أن هذه القضايا وغيرها، والتي يطالب بها جلالة الملك بوضوح ضمن تصور إصلاحي متكامل، تواجه بمقاومة شرسة لهذا المشروع التنويري السياسي والاقتصادي والمجتمعي من داخل الدولة. كما لا بد من الاعتراف أنه لا يمكن الحديث عن هوية وطنية جامعة، بغض النظر عن الأصل أو الدين أو الأيدولوجيا السياسية أو الجندر، خارج مفهوم حداثي للمواطنة، ينمي شعور الجميع بأنهم شركاء في بناء هذا الوطن الغالي.

لا يكفي أن يؤنب رئيس الوزراء البيروقراطية الأردنية لإعاقتها الاستثمار، بعد أن أبدى جلالة الملك استياءه؛ ولا يكفي أن تعترف الحكومة بأنها "سهت" في موضوع التعليم. حان الوقت لمقاربة جديدة متكاملة لبناء الدولة الأردنية الحديثة؛ مقاربة تدرك الصعاب، لكنها لا تقف عندها. حان الوقت لطريقة إدارة مختلفة تماماً عن الماضي، تؤسس لمستقبل تعددي حداثي، مستقر ومزدهر في الوقت نفسه.

واقع الحال أن الدولة الأردنية ليس لديها بعد مثل هذا المشروع التنويري المستقبلي المتكامل. مشروعها لم يستطع بعد أن يخرج من الشرنقة الأمنية الصرفة، وهو مشروع قد يحقق الاستقرار الآني، لكنه لا يصنع مستقبلاً.