ح.سلفية » متفرقات

الانتحار العبثي باسم الاستشهاد في سبيل الله

في 2015/09/01

سليمان الضحيان- مكة- تكاد العمليات الانتحارية اليوم تكون علامة عالمية دالة على الدين الإسلامي، فكل مسلم يرمز في المخيال الشعبي لدى شعوب العالم إلى مشروع انتحاري، وكل حادث تفجيري في العالم فالفاعل في ذلك المخيال مسلم حتى يثبت التحقيق أنه غير مسلم، فهل العمليات الانتحارية لا يقوم بها غير المسلمين؟في الحقيقة أنها ليست خاصة بالمسلمين ففي العصر الحديث اشتهرت عمليات (الكاميكاز) اليابانية، وتعني (الرياح المقدسة)، وهي عمليات انتحارية قام بها الطيارون اليابانيون في الحرب العالمية الثانية، فقبل يناير 1945م، شاركت أكثر من 500 طائرة في تلك العمليات الانتحارية، ومع انتهاء الحرب كانت الحصيلة أكثر من ألفي عملية انتحارية قام بها الطيارون اليابانيون، وممن قام بها من غير المسلمين منظمة (نمور التاميل) الهندوسية، وقد سجلت لهم أكثر من مئتي عملية انتحارية ضد الجيش السريلانكي، ولم يقتصر العمل على الرجال، بل كونت تلك المنظمة فرقة خاصة بالنساء المتطوعات لتنفيذ العمليات الانتحارية وأسمتها (النمرات السود)، وأول من قام بالعمليات الانتحارية في العصر الحديث من المسلمين حزب الله اللبناني، إذ نفذ عملية انتحارية في مقر المارينز في بيروت عام 1982م ثم ابتداء من التسعينات الميلادية وإلى اليوم انخرطت المنظمات السنية المقاتلة في تلك العمليات كالمنظمات الفلسطينية ومنظمات (الجهاد) و(القاعدة) و(طالبان)، و(داعش)، ولم يقتصر الأمر على المنظمات ذات المرجعية الدينية فقد قامت بذلك منظمات ذات مرجعية علمانية أو ماركسية بذلك كحزب العمال الكردستاني، والحزب القومي السوري.

وقد ترسخ في الوعي الشعبي اختصاص المنظمات الدينية السنية المقاتلة بتلك العمليات، وذلك لأمرين: الأمر الأول: كثرة المنظمات السنية التي اتخذت من التفجيرات الانتحارية سلاحا في حربها ضد خصومها، والأمر الثاني: توسع تلك المنظمات في استعمال سلاح العمليات الانتحارية فشمل المعارك، والطيارات، والمراقص، والشوارع، ومجامع الأسواق، والمساجد.

وقد اكتسبت تلك العمليات شعبية جارفة في بداية استعمالها حين كانت موجهة للعسكريين الأمريكيين المحاربين كما صنع حزب الله بجنود المارينز، أو العسكريين الإسرائيليين كما صنعت المنظمات الفلسطينية، لكن التساؤل عن شرعيتها وجدواها بدأ بعد التوسع في استعمالها والانحدار الأخلاقي في ذلك الاستعمال حتى وصل إلى مرحلة أشبه بالقتل العبثي وذلك بقتل المدنيين في الأسواق وشوارع المدن، ثم تطور الأمر مع داعش إلى تفجير دور العبادة من كنائس وحسينيات ومساجد، والمفارقة البالغة الغرابة أن المعنيين بالشأن الديني لم يولوا ظاهرة التفجير الانتحاري بالعناية من حيث التأصيل الشرعي خاصة بعد تطورها المخيف وتحولها إلى عنف عبثي جنوني يرتكب باسم الاستشهاد في سبيل الله، ويبدو أن ارتباط تلك العمليات بقضية فلسطين وكونها أحد أسلحة المقاومة هناك أكسبتها حصانة ضد النقد، وجعلت كثيرا من المعنيين بالشأن الديني يترددون في نقدها مع هشاشة الأدلة الشرعية التي يستشهد بها أنصار العمليات الانتحارية، ولست هنا معنيا بطرح نقاش فقهي عن تلك العمليات الانتحارية، لكن ذكر الأدلة الدينية التي يعتمدون عليها في ترويج جواز تلك العمليات يوقفك على هشاشة التأصيل الديني لتلك العمليات مع خطورة الآثار المترتبة عليها من قتل وحرق وهدم وتدمير، فعمدتهم في تجويزها قصة الغلام مع الملك، وإجماع العلماء على جواز الانغماس في الحرب، فأما قصة الغلام فإنه ضحى بنفسه وحدها في سبيل مصلحة شبه متحققة، والمنتحر يضحي بنفسه وبنفوس كثيرة بريئة في سبيل مصلحة موهومة، وأما قضية الانغماس فإن المنغمس يكون في حال شدة المعركة مع العدو والتحام الصفوف، ومع هذا فقتله نفسه غير متحقق فربما ينجو، وأما المنتحر بالعملية الانتحارية فالأغلب أنه ليس في معركة بل يفجرها في حالة السلم وبين المدنيين الأبرياء، وقتله نفسه متحقق، ثم إن لدينا آية محكمة في النهي عن قتل النفس كما في قوله تعالى: «ولا تقتلوا أنفسكم»فلا تعارض بما يمكن صرفه إلى معنى مغاير لقتل النفس، وقد كان للشيخ ابن عثيمين فتوى تحرم العمليات الانتحارية، حيث قال: «فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم فإن هذا من قتل النفس - والعياذ بالله - ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام؛ لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مئة أو مئتين، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، وبهذا ربما يتعنت العدو أكثر، ويوغر صدره هذا العمل، حتى يفتك بالمسلمين أشد فتكا»، ثم إن العمليات الانتحارية لو كانت مجمعا على شرعيتها لوجب على الفقيه المتمرس بأصول الدين والقواعد الكلية تحريمها اليوم بكل صورها وأشكالها من باب سد الذريعة بعد أن تحولت إلى سلاح فتاك بأيدي المتطرفين يعبثون به بأمن الأمة ويشوهون به صورة المسلمين في العالم كله، والعجب أن نجد قاعدة سد الذريعة معملة لدى فئة من الفقهاء اليوم في قضايا جزئية مختلف في ضررها، لكنها معطلة في النظر في شرعية التفجيرات الانتحارية مع فداحة الأثر الذي تحدثه في واقع الأمة.