دعوة » دراسات

الدعوة بين الاجتهاد الفردي والعمل المؤسساتي

في 2015/10/08

مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود- الرياض السعودية-

هناك دعاة مؤهلون علميا، وهم يعون طبيعة مهمتهم، من حيث دورها في بناء الوعي العام. وهؤلاء إما يرتبطون بمؤسسات تنظم عملهم في إطار تكاملي أشمل مع بقية المؤسسات، وإما أنهم واعون بشروط الراهن، ومدركون لطبيعة انتظام دورهم الفردي مع مجمل الدور العام للمجتمع ومؤسساته الكبرى. أي هم في النهاية يعملون بوعي مؤسساتي؛ وإن لم ينتموا إلى مؤسسة دعوية فعلا.

يصوغ الدين، وخاصة في المجتمعات المتدينة، مجمل التصورات الأعمق التي تحدد نمط السلوك الإنساني، على اختلاف تمظهرات هذا السلوك. فحتى تلك السلوكيات التي قد تبدو – ظاهريا – بمنأى عن الخضوع للمؤثر الديني، هي - في عمقها - وثيقة الارتباط به؛ من حيث هو مصدرها الأساس، أو من حيث كونهما جميعا يعودان إلى مصدر واحد يشكل جذر التصور الثقافي العام.

من هنا، فإن كل المتغيرات التاريخية الكبرى كانت ذات علاقة بالدين، سلبا أو إيجابا؛ من حيث هي متغيرات رُؤيَوية تتغيا التحكم في النمط العام/ الجمعي للسلوك الإنساني. وهذه المتغيرات، إما أنها صدرت عن الدين تأكيدا أو تحويرا أو تطويرا، أو صدرت عن الاصطدام بالدين، ومحاولة نفيه بالرؤى اللادينية، تلك الرؤى التي تتشكل بكثير من مكونات ما تتقاطع معه سلبا، فتنتهي إلى أن تتخذ صيغة نظرية تقترب من بنية الوعي الديني، وقد تنتهي إلى دينية، مع أن تمظهراتها العامة قد تبدو – على الأقل في بداياتها - مناقضة ومناهضة للمبدأ الديني.

مما لا شك فيه أن المجتمعات الإسلامية هي مجتمعات متدينة، مقارنة ببقية المجتمعات الإنسانية. لا يعني هذا أنها دائما، وبكل مكوناتها، هي الأشد تدينا في جميع الأحوال، ولكن هي كذلك في الإجمال. ومجتمعنا المحلي هو – بلا خلاف – من أكثر هذه المجتمعات الإسلامية تدينا، وأشدها التزاما بالطقس الديني. ليس هذا تمييزا ولا تمايزا، فأنا لا أحكم بأننا الأفضل تدينا، ولا بأننا مختلفون، ولكن، نحن الأكثر تدينا على مستوى الارتباط بالخطاب الديني، انفعالا وتفاعلا، بكل ما يحمله هذا الأمر من إيجابيات وسلبيات، ليس هذا مجال تفصيلها.

إذا كان الأمر كذلك على وجه العموم، فلا شك أن الخطاب الدعوي الديني لدينا يقوم بمهمة حاسمة في صياغة وعي الجماهير، ومن ثم، في التحكم في مجمل السلوكيات العامة لأبناء هذا الوطن. أي أنه يمارس دورا عموميا بامتياز، حتى وهو يتناول المهمات الفردية للمتدين. فبحكم طبيعة التدين العام، لا تنحصر مهمته في إطار هموم المتدين الفرد، حتى وهو يتناول الأمر من خلال هذا الفرد، فكيف إذا أضفنا إلى هذا أن خطابنا الديني في شطره الأعظم هو خطاب اجتماعي عام، بل وأممي في كثير من الأحيان؟!.

لكن – وهنا المفارقة - على الرغم من عمومية المهمة، وعمومية النتائج المنتظرة من الخطاب الدعوي، إلا أن الاجتهاد الفردي في الممارسة الدعوية ظاهرة بادية للعيان. المفارقة تتحدد في أننا نجد خطابا يمارس أقصى درجات العمومية في أخطر مهمات توجيه الرأي، ولكنه – في الوقت نفسه - يمارس دوره في أعلى درجات الفردية، وبصورة تحكي واقعا فوضويا يعبث بمستقبل أجيال وأوطان.

يفترض في أي عمل يتجاوز حدود الفرد وخياراته الخاصة أن يكون عملا مؤسساتيا مُمَنهجا، وليس عملا فرديا يخضع لظروف الفرد ونزواته، بل وطموحاته الخاصة التي قد تقوده إلى التضحية بكثير من استحقاقات المصلحة العامة؛ كثمن لتحقيق المصلحة الخاصة.

هناك دعاة مؤهلون علميا، وهم يعون طبيعة مهمتهم، من حيث دورها في بناء الوعي العام. وهؤلاء إما يرتبطون بمؤسسات تنظم عملهم في إطار تكاملي أشمل مع بقية المؤسسات، وإما أنهم واعون بشروط الراهن، ومدركون لطبيعة انتظام دورهم الفردي مع مجمل الدور العام للمجتمع ومؤسساته الكبرى. أي هم في النهاية يعملون بوعي مؤسساتي؛ وإن لم ينتموا إلى مؤسسة دعوية فعلا.

مقابل هؤلاء، ثمة دعاة يمنحون أنفسهم بأنفسهم شروط الجدارة الدعوية، وقد تمنحها لهم الحركات أو التيارات الفئوية التي ينتمون إليها بشكل مباشر أو غير مباشر. وهؤلاء لا يتوفرون على شروط التأهيل العلمي، ولا على شروط التأهيل الاجتماعي المؤسساتي، ولا على شروط الوعي بالأهداف والغايات التي يستهدفها المجتمع في مسيرة تطوره.

ويفتح المجال لهؤلاء، أن الفضاء الدعوي مفتوح على مصراعيه للجميع، وبلا أي شروط، لا شروط مؤسساتية، ولا حتى شروط اعتبارية. ومن هنا يأخذ أي فرد - يرى أن لديه ما يقوله في الشأن الديني (والذي هو – بالضرورة – شأن أعم من الديني) - مهمة توجيه الرأي العام الديني!.

إذا كانت مهنة الطب مثلا، لا تمارس إلا بعد إجازة مؤسساتية، كونها من أخطر المهمات، فإن (المهنة الدعوية) تمارس – في الغالب – بلا أي مؤهلات، مع أن مهنة الطب يقع ضرر الخلل فيها على فرد أو مجموعة أفراد، وفي مدى زمني لا يتجاوز – بأي حال - حياة الفرد، بينما الخلل في المهمة الدعوية تطال سلبياته مجمل الوعي، ويؤثر في المجتمع ككل، ويتجاوز تأثيره الزمني حياة الفرد، إلى حياة أجيال وأجيال، بل ربما امتد لقرون، وما مذهب الخوارج – مثلا – إلا دليل صارخ على ذلك، حيث الخلل الدعوي في ذلك الماضي السحيق، لا يزال يضرب وعي الأجيال هنا، ويتسبب في كوارث تودي بحياة عشرات الألوف من الأبرياء.

الخطأ الطبي الناتج عن ممارسة غير المؤهل لمهمة الطب، يمكن تلافيه بمجرد منعه من ممارسة مهنة الطب، وتوقف أثره نهائيا، بينما الداعية غير المؤهل، والذي يبث رؤاه التي تشكل وعيا مجتمعيا عاما، لا يمكن إيقاف أثره بمنعه، ولا حتى بموته. فالخطاب يتناسل في العقول؛ حتى وإن لم يوثق كتابة وسماعا، فما بالك إذا كان يجري توثيقه ونشره بالكتابة وبالصوت والصورة ؟!

لا ريب أنه سيكون غذاء مدمرا للعقول على الدوام، سيكون أخطر من المخدرات التي يمكن القضاء عليها بمصادرتها، فهي لا تتجدد بذاتها، بينما الأفكار المشوشة والإجرامية والتَّخَلفيّة تتغذى وتنمو باستهلاكها، وربما كانت مصادرتها ترويجا لها في أكثر الأحيان.

إذا قبضت على مروج مخدرات، وصادرت ما معه، انتهى خطره – كفرد - في اللحظة ذاتها. لكن إذا قبضت على مروج أفكار دينية منحرفة (وتحديدا: الأفكار الدينية؛ لأنها الأعمق تأثيرا، كما أشرت سابقا)، ومنعته من الكلام، فكيف تمنع ما بثه من أفكار، بل كيف تنجح في حصر أثرها في حدود المقتنعين بها لحظة القبض عليه؟!

أنا أكرر توضيح الصورة ليدرك الجميع خطورة المهمة الدعوية، وأن تركها للخيارات الفردية الخاصة أخطر بكثير وكثير من ترك الصيدليات تبيع ما تشاء من أدوية بلا أي رقابة، بل وأخطر من ترك كل إنسان لضميره الفردي؛ يبيع ما وقع في يديه أيا كان، حتى ولو كان سما قاتلا، أو مخدرات!.

يستطيع اليوم أي أحد، وربما شاب قطع مراهقته وجزءا من شبابه في ترويج وتناول المخدرات، وفي ارتكاب الموبقات، أن يتحول في يوم واحد إلى (داعية!). لا يوجد ما يمنعه من ذلك. بل وفيما لو أنه تحول من ماضيه الإجرامي إلى الفكر المتطرف أو التكفيري، فسيكون محل قبول عند قطاع اجتماعي لا يستهان به، وخاصة من فئة الشباب المتأثر بالتحولات الدراماتيكية، ومن ثم بالأفكار المحايثة لها، ومن هنا، سيقذف بهم هذا (المتحول/ الداعية) إلى أتون التطرف والتكفير والإرهاب بمجرد أنه يريد التكفير عن ماضيه.

أما سؤال: هل يكون صادقا أو غير صادق، فهذا ليس مجاله، فهو قد يكون صادقا جاهلا أو أحمق، وربما لديه من الدوافع النفسية والاجتماعية ما تجعله يختار أشد الخطابات تطرفا؛ لتكون طريقه الأسهل إلى التكفير عن ماضيه. ولكن، تكون النتيجة – وبصرف النظر عن صدقه من عدمه – مدمرة، تنتهي بأن تتسع دائرة الإرهاب إلى درجة صادمة، إلى درجة أن يقتل الابن أباه، والأخ أخاه أو خاله أو ابن عمه، في مشهد من أشد مشاهد البؤس الإنساني قتامة.

ما الحل لكل هذا؟

الحل في تقديري لا بد أن يصدر عن المؤسسات المسؤولة، كلٌّ في ميدان اختصاصه، خاصة المؤسسات الأمنية والمؤسسات الدعوية. لا بد أن تكون مهمة الداعية مهمة متخصصة، تخضع لشروط ومؤهلات واختبارات دورية – مباشرة وغير مباشرة – تُغربل الحقل الدعوي. لا بد أن يقتصر الأمر في الدعوة على المؤهلين بشروط المؤسسة المسؤولة، ومن يتجرأ ويمارس هذه المهمة من تلقاء نفسه، فيجب أن يحاسب بصرامة، وتوقع عليه أشد العقوبات، بأشد مما توقع على من يمارس مهمة الطب وليس بطبيب أصلا، بل الأولى أن يُعامل من يتجرأ على ذلك، ويعاند بالخروج عن الشرط المؤسساتي، معاملة مرتكبي أكبر الجرائم بحق الإنسان وبحق الوطن؛ لأن هؤلاء الذين يقتلون الإنسان في صورته الاجتماعية لا يقلون جرما عن الذين يقتلونه في صورته الفردية، بل هؤلاء يقتلون الفرد والمجتمع، يقتلون الحاضر والمستقبل، بل ويقتلون – من قبل ومن بعد – أجمل ما في الإنسان من مشاعر إيجابية تجاه أخيه الإنسان.