ح.سلفية » متفرقات

الضيافة وتحديات العنف

في 2015/10/14

عبدالله المطيري- الوطن السعودية-      

تحتل الضيافة مكانة في كثير من الثقافات. يبدو أنها ظهرت في حياة البشر كردة فعل على تراجيديا العنف. الضيافة بهذا المعنى انتصار للحياة، وحفظ لبقايا من روابطها في مواجهة تاريخ العنف القديم قدم البشرية، الضيافة من أعمق العلاقات البشرية. أعني بذلك أن الالتزامات المترتبة على الضيافة تحظى بإيمان قوي لدى كثير من الناس. باختصار بمجرد أن تعتبر أن إنسانا ما ضيفك فإنك قد التزمت له بجملة من الحقوق الاستثنائية. أنت مسؤول عن رعايته الجسدية والنفسية وحمايته من أي عداوة ولو كانت مجرد إشارة. قوة الالتزامات الأخلاقية تظهر حين تتعارض مع التزامات أخرى ربما يبرزها هذا المثال. أحد الكرماء في أي منطقة من مناطق المملكة ذات الأغلبية السنية يطرق بابه ضيف لا يعرف من هو؛ يرحب هذا الكريم بضيفه ويستقبله أحسن استقبال ويقيم له وليمة يدعو لها جيرانه في الحارة. مع الأحاديث الجانبية يخبر الضيف صاحب المكان أنه شيعي المذهب. مرحبا بك في بيتك ومحلك: يرد صاحب البيت. أحد المدعوين للوليمة من الجيران متشدد طائفي بدأ بمهاجمة التشيّع مع علمه بمذهب الضيف، رغم أنه لم يوجه كلاما مباشرا للضيف. الضيف تظهر عليه علامات الانزعاج. ماذا نتوقع من "المعزب" راعي المحل وهو سني مؤمن بأن التشيع مذهب باطل في هذا المشهد؟ سألت كثيرا من الناس عن هذه الحالة المفترضة وكان جوابهم بالغالبية: أن راعي المحل سيطلب من جاره قطع هذا الموضوع وربما الاعتذار للضيف. المهم أن الكريم لن يسمح لهذا المشهد بأن يستمر. يمكننا أن نتخيل ذات المشهد لو كان صاحب المكان شيعيا والضيف سنيا وسنصل برأيي إلى نتيجة مشابهة.

هذا المثال يمكن تحليله من خلال محاولة فهم الالتزامات التي يشعر بها صاحب المحل ومعادلة الأولويات عنده. من جهة الرجل مؤمن بأن المذهب السني حق ويعتقد أن غيره من المذاهب باطلة. هذا الرجل قد يسمع خطبة مسجد تهاجم التشيع ويستمع لها بدون قلق وقد يشاهد برنامجا تلفزيونيا يهاجم التشيع ويعتقد أن مقدم البرنامج يقوم بعمل خير لا اعتراض عليه. بمعنى آخر هذا الرجل منسجم مع حالة التمذهب المنتشرة في المجتمع. في المقابل هذا الرجل لديه مجموعة من القيم المتعلقة بالضيافة تجعل الضيف على قيمة أعلى حتى من الذات. هذا الإنسان تربى على أن للضيف مكانة خاصة تعطيه حقوقا لا يمكن التنازل عنها. هذه الحقوق تتأسس على عدم مضايقة الضيف، وأن يكون المشهد مشهد ترحيب مستمرا بدون تعكير. هذا الإنسان تربى كذلك على أن الضيافة مخصصة للغريب والمحتاج وعابر السبيل. هو يعرف كذلك أن هوية الضيف لا تهم. الكريم لا يسأل ضيفه حتى عن اسمه، باعتبار أن الضيافة بلا شروط وبلا مقدمات. في هذا الإطار ما يفعله الجار يتعارض مع حق الضيافة والمسؤولية، مسؤولية صاحب البيت عن حماية ضيفه.

عرضت هذا المثال على الناس في "تويتر" وكانت غالب الردود تؤكد على أن الكريم سيعطي الأولوية لحق الضيف على أي اعتبار آخر. هذه الأولوية يمكن أن توضح لنا المكانة التي تحتلها قيم الضيافة في كثير من الثقافات والمجتمعات. هذه الأيام أقرأ عن الضيافة في أفريقيا وأوروبا والصين وألاحظ كثيرا من التشابه بين هذه الجماعات البشرية. الغريب والمحتاج وعابر السبيل لهم معاملة خاصة في هذه الثقافات. وجود هذا الإنسان في المكان الذي أعيش فيه له معنى أخلاقي مهم وجوهري يتعارض مع مشاهد العداوات والخصومات والمنافسات والحروب. يبدو أن الضيافة ظهرت في حياة البشر كردة فعل على تراجيديا العنف. الضيافة بهذا المعنى انتصار للحياة، وحفظ لبقايا من روابطها في مواجهة تاريخ العنف القديم قدم البشرية.

ما الذي يجعل للضيافة هذه المكانة في قلوب كثير من الناس؟ هل الأمر مجرد عادات وتقاليد؟ أم أن الضيافة في الأخير مشهد من مشاهد القوة التي يظهرها الفرد أمام الآخرين؟ أم أن الأمر يحيل إلى أعمق من ذلك في حياة الإنسان. هل نحن أمام مشاعر عميقة مثل مشاهد الرحمة والعطف التي يصعب تفسيرها؟ هل نحن أمام إحدى القوى الطبيعية للحفاظ على الحياة أمام قوى العنف التدميرية من البشر؟ هل الضيافة والرحمة بيولوجية في جينات البشر؟ هل الضيافة والعنف انعكاسات لثنائيات الخير والشر في الحياة؟ هل في الضيافة عنف؟ كل هذه الأسئلة تحتاج بحثا مفصّلا ومستقلا، لكن من المثال السابق ومن أمثلة كثيرة في التاريخ الإنساني يمكن القول إن الضيافة تحيل إلى معان أخلاقية عملية مؤثرة في حياة الناس. ربما التركيبة الجديدة للحياة المعاصرة، خصوصا في المدن الكبيرة، قد غيّرت بعض الصور القديمة للضيافة، لكن هذا لا يعني بالضرورة ألا تظهر الضيافة في صور جديدة. صحيح أن كثيرا من البشر لا يعيشون في بيوت يمكن للغريب وعابر السبيل والمحتاج الوصول إليها. ولكن الأكيد أن المدينة مليئة بالأغراب والمحتاجين وعابري السبيل. وصحيح كذلك أن الضيافة في أساسها موقف في داخل الإنسان تجاه أخته الإنسانة وأخيه الإنسان وأن المكان نتيجة لهذا الموقف.

ترحيبك بالقادم الجديد على صالة الانتظار العمومية وإفساح المكان المجاور لك مشهد من مشاهد الضيافة في المكان العام تكفلت به ابتسامة وعبارة مودة. إذا كانت الضيافة استجابة لقوة الحياة في داخلنا؛ فلا بد أن تستمر مع استمرار الحياة وإن أخذت صورا مختلفة مع اختلاف الظروف.