دعوة » مواقف

حادثة نجران مراجعة الموقف الديني من الآخر

في 2015/11/02

شتيوي الغيثي- الوطن السعودية-    

بعض المدونات قد ساعدت على ظهور أجيال جهادية استفادت من تلك التنظيرات لدى السلفية العلمية أو الصحوية لتصنع سلفيتها الجهادية وتطوراتها التي وصلت أخيرا إلى تنظيم داعش الذي غطى على كافة التنظيمات الأخرى

 تمثل نجران عمق التعايش المذهبي والثقافي في السعودية، فهي البلد الذي يشترك فيه المذهب الإسماعيلي إلى جانب المذهب السني، ويكاد يختفي ذلك الحد الفاصل من الاختلاف بين المذهبين اجتماعياً، وهذا ما يقلق الكثير من الطائفيين والمتمذهبين، إذ طالما كانت نجران بمنأى عن الصراع المذهبي بين السنة والشيعة بحكم ذلك التعايش الحاصل بين أبناء العمومة ما شكلت حالة تكاد تكون استثنائية في قيمة التعايش التاريخي والاجتماعي الذي ربما لا نجد له نظيرا بارزاً في باقي السعودية، وإن كانت قيمة التعايش معاشة في السعودية إلا أن نجران تأخذ بعدا أكثر عمقا من ناحية تأثيره في المجتمع النجراني والاختلاف المذهبي الجميل داخل القبيلة أو العشيرة الواحدة؛ الأمر الذي يجعلها أكثر جدارة بقيمة التعايش من غيرها لمدى عمقها في نجران، ولعل هذا ما جعلها محط نظر المتطرفين في الآونة الأخيرة مما حرك الفكر الداعشي نحوها لضرب تلاحمها المذهبي والاجتماعي، لكنها مازالت بمنأى عن الصراع المفتعل في المنطقة حتى بعد محاولات الاستفزاز الداعي إلى هذه المنطقة الفريدة.

وإذا كانت حادثة نجران _ بعد عزائنا لأهالي ضحايا التفجير الإرهابي الأسبوع الفائت_ تكاد تكون امتدادا لحوادث أخرى كالدالوة في الأحساء، والحوادث العديدة في القطيف والدمام وسيهات وغيرها التي ذهب فيها ضحايا من شباب المذهب الشيعي في السعودية، فإنه يكون من اللازم النظر في تلك المدونات الفكرية الدينية التي تنظر إلى المختلف مذهبياً بنظرة إقصائية تكفيرية في بعض جوانبها وتنتشر في المواقع السعودية؛ فضلا عن العالم العربي بأكمله، وهي مواقف تمتد تاريخاً إلى المدونات العربية القديمة في صياغة رؤى المذاهب الدينية تجاه بعضها البعض وفق سياقات تاريخية سياسية شكلت كافة المذاهب الإسلامية المعروفة اليوم، ومع انتهاء الظروف التاريخية والسياسية التي كانت في الماضي إلا أن امتداداتها العقدية مازالت متداولة حتى الآن، وكثير من المجتمع بمثقفيه ومشايخه وعوامه يتعاملون معها معرفياً أكثر من كونها تاريخية ربما تنهدم بكليتها مع انتهاء إطارها التاريخي، لكن لكونها أخذت منحى معرفيا وفكريا فقد امتدت حتى هذا الوقت وأصبحت عقيدة مذهبية يحاكم الإنسان من خلالها.

صحيح أنه يصعب تتبع كل ما تم من مدونات في الفكر العربي الكلامي القديم، والبحوث الدينية الحديثة في موقفها من المذاهب الأخرى إلا أنه بالإمكان مراجعة الأصول عند كل مذهب من أبناء المذهب نفسه، ومن المهم أن يشترك بذلك جميع المثقفين المستنيرين أو الإسلاميين/ الليبراليين من المذاهب الإسلامية، وخصوصا من المذهبين الكبيرين: السني بتفريعاته السلفية والأشعرية والصحوية وغيرها، والشيعي بتفريعاته الاثنا عشرية والإسماعيلية والزيدية وغيرها، بحيث يقوم كل هؤلاء بكشف خلل الأصول الفكرية لكل مذهب تمهيدا لنقدها وتصحيح الموقف من الآخر لاعتماد أبناء المذاهب على تلك الأصول، ولذلك يصبح العمل على نقدها ضرورة معرفية ووطنية وإنسانية على حد سواء على الرغم مما تشوب هذه العملية النقدية من رؤية براجماتية لصناعة واقع جديد قد لا يرضاه أبناء المذاهب إلا أن المبرر لذلك أن هذه الأصول كانت تاريخية مما يعني ارتباطها بالواقع المتغير في ذلك الوقت فجاءت براجماتية منذ بدايتها.

وفي النظر إلى أقرب المدونات التي شكلت فكر الجيل الحالي، وليس بالضرورة حركيته بشكل مباشر، فإن مواقفها كانت مواقف ضدية من الآخر وهو الخطاب الصحوي رغم أني لا أحبذ ربط الأمور بشكل مباشر وأحملهم ما يحصل من تفجيرات إلا أن تلك المدونات شكلت العقل الديني العام في السعودية، ولعل بعض امتدادات بعض تلك المدونات قد ساعدت على ظهور أجيال جهادية استفادت من تلك التنظيرات لدى السلفية العلمية أو الصحوية لتصنع سلفيتها الجهادية وتطوراتها التي وصلت أخيرا إلى تنظيم داعش الذي غطى على كافة التنظيمات الأخرى حتى أصبح تنظيم القاعدة نسخة ألطف بالمقارنة مع تنظيم داعش، لكن تبقى المدونات الفكرية التي كانت متداولة في السعودية ذات تأثير على مجمل الحراك الديني في السعودية وبحكم قرب الصحوة من التأثير على الشباب السعودي فقد تم التركيز عليها في هذه المقالة، وإلا فإن المذاهب: السنية والشيعية تشترك في تفجير المنطقة بكثير من الأزمات السياسية والقتل على الهوية، والتركيز على الصحوة هنا ليس اختيارا تحريضيا بقدر ما هو اختيار معرفي يهدف إلى تجلية المقولات الضدية من الآخرين، وهم هنا الشيعة والأشعرية والحداثيون أو العلمانيون أو أي خطاب يناهض الفكر الصحوي لمدى قربهم من التأثير على الفكر السعودي طيلة الثلاثين السنة الماضية، وقد نقل الدكتور محمد بوهلال في كتابه: (خطاب الصحوية السعودية) عددا من المقولات والمواقف الفكرية من المذاهب أو الأفكار الأخرى، فكان الموقف من الأشعرية كما هو عند أحد أهم رموز الصحوة وهو الحوالي بأنهم "أكبر فرق المرجئة الغلاة، وهي تيار بدعي ومذهب بدعي.. والحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة لاشك في ذلك أما أنهم من أهل السنة فلا" ( ص 28)، في حين كان الموقف من الشيعة أكثر حدة بوصفهم خطرا على السنة وشرا لابد أن يزال كما كان رائجا في كتاب (واقع الرافضة في بلاد التوحيد) لناصر العمر وتعداده لبعض مظاهر الشرك ببناء القبور ونشر أضرحة آل البيت وغيرها (راجع ص 42ـ 44)، أما تجاه الموقف من الأفكار الحديثة كالعلمانية مثلا فهو موقف أقرب إلى انحراف عقدي، إذ يعتبر بوهلال أن مواقف الصحويين حول العلمانية ناقلا عن السكران رأيا فكريا يرى التعارض المطلق بين الإيمان بالله والأخذ بها، فهي تتحول إلى ضرب من ضروب الشرك، ولا يدفع عن العلماني الشبهة إقراره بإسلامه (راجع ص 103)، هذا غير الموقف المناهض للحداثة بوصفها خارجة عن الإسلام كما كان رائجا في كتاب عوض القرني الشهير (الحداثة في ميزان الإسلام).

المواقف الفكرية التي نقلها بوهلال في كتابه، أو غيرها مما لم ينقلها، تشي بموقف حاد من الآخرين من المذاهب الأخرى، أو الأفكار العصرية الجديدة، مما يسبب نوعا من الصدام الفكري الذي (ربما قاد لاحقا إلى الصدام المسلح، وأضع كلمة (ربما) احترازاً من وصمة التأثير المباشر لتلك المواقف على الشباب الذي يقوم بعملياته التفجيرية في أكثر من مكان؛ إذ جرت العادة لدى خطاب عديد من أبناء الصحوية ومن بعض المثقفين التفريق بين الرؤى التكفيرية أو التضليلية والمواقف الصدامية اللاحقة، بمعنى أن التكفير مثلا هو موقف فكري لا يستلزم معه موقف القتل، وهذا التفريق إن صح معرفيا، فإنه لا يصح واقعاً، فالحكم بالتكفير هو حكم بالردة، والحكم بالردة حكم بالقتل، والواقع يشهد بأن التكفير هو قنطرة العمل المسلح ضد الآخرين حتى أبناء العمومة كما حصل في حادثة (تكفى يا سعد) في عيد الأضحى الفائت.