دول » السعودية

الجهاديون وأحاديث آخر الزمان

في 2015/12/24

رائد السمهوري- الوطن السعودية-

أخبار ذوي الرايات السود القادمين من المشرق، لباسهم السواد، وأسماؤهم الكنى، تنطبق على العباسيين كذلك! فباستطاعة أي أحد أن يأتي إلى نصوص الإخبار بالغيب فيحملها على من له بها أدنى مشابهة!

هناك نزعة في تأويل النصوص الدينية المخبرة عمّا يجري من أحداث وإسقاطها على مصاديق معيّنة، أو على أحداث محدّدة. هذه النزعة موجودة لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين كذلك، فمن اليهود من يرتقب الوعود المذكورة في كتبهم، ومن المسيحيين كذلك، وقل مثل هذا عن المسلمين.

كتب روجيه جارودي كتابه عن الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ونقد فكرة (أرض الميعاد)، نقدها من حيث وثاقة ثبوتها، ونقدها من حيث دلالتها كذلك، وبيّن أنها لم تكن مفهومة طيلة القرون السابقة بهذه الطريقة العصرية التي فهمها بها الصهاينة، وجعلوها جزءًا أصيلاً من أيديولوجيا الدولة الصهيونية المحتلّة لإضفاء الشرعية على الجرائم البشرية التي ارتكبوها في تشريد شعب وإحلال قوم غرباء محلّه في أرضه.

كتبت كذلك الباحثة الأميركية غريس هالسل كتابها الشهير عن (النبوة والسياسة)، وتناولت نصوصًا وأحداثًا مثيرة لبعض الساسة الأميركان –منهم رونالد ريجان-، كيف كانوا يتعاملون مع نبوءات التوراة والإنجيل، ويتكلمون عنها في مجالسهم.

المقصد مما سبق أن أقول: إن "توظيف" النصوص الغيبية وإنزال (مفاهيمها) على وقائع محددة، وأشخاص معيّنين؛ أمرٌ حاضر عند ذوي الأديان جميعهم، ومن سالف العصور حتى زمننا هذا.

كتب جهيمان العتيبي رسالة عن فتن آخر الزمان، والمهدي، ونزول عيسى بن مريم، وهي أخبار يدخل الاجتهاد في تصحيحها وتضعيفها بمقاييس المحدثين، وليس الإيمان بما صحّ عن رسول الله بمشكلة، لكن المشكلة هي توظيف تلك الأحاديث الغيبية وحملها على وقائع معيّنة، وأشخاص معيّنين بلا برهان ولا دليل، وليست المصيبة هي في إنزالها على واقع محدد وشخص معيّن فقط، بل المصيبة هي أن يكون هذا "الإسقاط" إيمانًا راسخًا كأنه وحي من الله! ورغم بطلان أوهام جهيمان ورفاقه، ورؤيتهم رأي العين تهاوي ما آمنوا وأيقنوا به من أن فلانًا هو المهدي، وأن جيشًا سيأتي فتخسف به الأرض..إلخ. رغم تهاوي هذا الاجتهاد "المخطئ" الذي عومل معاملة الإيمان؛ لا نزال نجد استمرارًا لهذه الطريقة في التفكير لدى أبناء الحركات الإسلامية حتى يوم الناس هذا.

فهل يخفى على أحد انتشار أحاديث الرايات السود التي تأتي من المشرق؟! وكيف أن لها سوقًا رائجة عند التيار المسمّى "التيار الجهادي" وأنصاره ومحبيه؟ وهل يخفى على أحد الاستدلال كل حين بحديث حسن الإسناد في أحسن أحواله: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" بل جعله أساسًا (أيديولوجيًا) لقيام حركات بأسرها؟

إن أولئك الذين يفهمون هذه النصوص بتلك الطريقة يغفلون عن حقائق مهمة:

الحقيقة الأولى: أن هناك فرقًا بين النبوءات والتكليف، فإذا جاء في البخاري ومسلم أن رجلاً اسمه ذو السويقتين (الله أعلم به) سيأتي فيقتلع الكعبة حجرًا حجرًا كما هو مروي؛ فهذا إخبار بأمر غيبي، لكن هل يعني هذا أنه لو جاء (هذا المخلوق) وكان في الأرض مسلمون، هل يعني هذا أن يستسلموا له لأنه ورد في خبر منسوب للنبي؟ وهل لو أدركنا زمان هذا الرجل الأحمش الساقين فلن يكون تكليفنا الشرعي هو منعه من هذا الجرم الأثيم؟

وإذن فهناك فرق بين الإخبار بالغيب والتكليف، والسؤال الموجّه لهؤلاء: من كلّفكم بالقيام بالخلافة؟ وهل المقصود بالخلافة هو فهمكم أنتم؟ وهل في الإسلام تحديد واضح لشكل الدولة؟ وهل فهمكم هو منهاج النبوّة الذي لا ريب فيه؟

الحقيقة الثانية: أن تلك الأخبار جاءت بمفاهيم ذهنية، ولكن إنزالها على (المصاديق)، أي على المعيّنات من الأحداث، أو الأشخاص، ليس فيه نص شرعي، بل هو اجتهاد بشري – في أحسن أحواله-؛ فأخبار ذوي الرايات السود القادمين من المشرق، لباسهم السواد، وأسماؤهم الكنى، ينطبق على العباسيين كذلك! فقد كان شعارهم السواد، وكانت أسماؤهم الكنى: أبو مسلم الخراساني، أبو سلمة الخلال، أبو جعفر المنصور، أبو العباس السفاح.. إلخ.. والمقصود أنه باستطاعة أي أحد أن يأتي إلى نص من نصوص الإخبار بالغيب فيحملها على من له بها أدنى مشابهة!

الحقيقة الثالثة: أنه لو اجتهد أي إنسان اجتهادًا فليس له الحق البتّة من أي وجه من الوجوه أن يجبر المسلمين عليه، فضلاً عن أن يوقن به هذا اليقين الشديد؛ لأن غاية الاجتهاد الظن، ومعاملة الظن معاملة اليقين خلل في العقل، بل مخالفة صريحة لكتاب الله تعالى في آيات واضحات بينات: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا}، {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين}.

ومثل هذه الطريقة في التفكير ليست فيمن ينتسب إلى أهل السنة فقط، بل في الشيعة مثل هذا كثير، لماذا؟ لأن هناك مناهج في التفكير تساعد على فهم النصوص بهذه الطريقة، ومناهج في القبول والرد تجيز قبول مثل هذه الأخبار.