دول » السعودية

الموازنة .. الإنفاق النوعي وإيقاف الهدر

في 2015/12/31

د. عبد العزيز الغدير- الاقتصادية السعودية-

كتبت مقالة منذ عدة سنوات حول كفاءة الإنفاق العام تحدثت فيها بكل صراحة ووضوح حول مشكلة الهدر الكبير للمال العام لجهتي النوع والكم، فمن ناحية نوع الإنفاق تمنيت أن نركز الإنفاق على ما يحقق التنمية المستدامة والفاعلية المثلى للأموال بالتعاون مع القطاع الخاص والمواطنين من خلال استثمار قدراتهم الشرائية لتوفير متطلباتهم التنموية بمحفزات حكومية بدل الاعتماد الكلي على الإنفاق الحكومي كما هو الحال في الدول التي اعتمدت اقتصاديات السوق.

ولقد استرشدت بالدعاء المأثور عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عند المطر وهو" اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ" وهو دعاء يشير إلى أن ماء المطر يكون أكثر نفعا إذا سقط في أماكن نوعية كالآكام وهي الجبال الصغيرة والظِراب وهي الروابي الصغيرة التي ينشئ نزول الماء منها الشعاب التي تصل لمناطق بعيدة فتكون الرياض الجميلة المبهجة، وبطون الأودية التي لا يسكنها أحد وينتفع الناسب بالماء الذي يتجمع فيها، وعلى منابت الشجر لتنمو ويستفيد الناس بظلها أو ثمارها أو حطبها.

إيرادات الدولة، خصوصا المتحصلة من مبيعات النفط، كالمطر يجب أن تصرف إلى الآكام والظراب والأودية الاقتصادية وإلى منابت شجرة التنمية لتحقيق الاستفادة المثلى من هذه الإيرادات دون هدر أو تبديد أو تبذير بالإنفاق على مجالات غير ذات أولوية أو مجالات لا تحقق التنمية المستدامة أو إنفاق يشجع على الإسراف في استهلاك الثروات دون مبرر كما هو حال استهلاك الوقود والكهرباء والماء من جميع الفئات والشرائح الاقتصادية.

أذكر أنه حسب تقارير وورش عمل متعددة هناك الكثير من المشاريع الحكومية المتعثرة والتي تصل إلى نحو أربعة آلاف مشروع تفاوتت أسبابها من وجهتي نظر المسؤولين في الحكومة والمستثمرين في القطاع الخاص، حيث يشير المسؤولون إلى أن الكثير من المستثمرين في القطاع الخاص يقدمون مصالحهم الشخصية كبحثهم عن الربح السريع دون الالتزام بمعايير الجودة، إضافة إلى سوء الموظفين والعمال الذين تستعين بهم شركات القطاع الخاص لجهة الكفاءة والالتزام والمهنية حتى أن بعضهم يحمل شهادات مزورة، بينما يشير المستثمرون إلى أسباب أخرى منها ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية بشأن تنفيذ المشاريع والبيروقراطية والعقود الإذعانية وضعف التمويل وتأخر الدفعات المالية وصعوبة استقدام العمالة المهنية وغير ذلك من الأسباب.

مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية رغم قصر عمره إلا أنه برئاسة ولي ولي العهد الأمير الشاب محمد بن سلمان حقق قفزات كبيرة في مجال إعادة الهيكلة الفكرية وهيكلة المهام الموزعة على الوزارات، ولا شك أن ما قام به من تفعيل لدور وزارة الاقتصاد والتخطيط في وضع الخطط والرؤى وتنسيق الجهود الحكومية وتوجيه الموارد المالية المتاحة وفقا للأولويات سيكون له أكبر الأثر في رفع كفاءة المال العام وخفض الهدر والتبذير والإسراف وبالتالي رفع كفاءة الموازنات بشكل كبير بما يعوض النقص في حجم الموازنة مقارنة بالأعوام الماضية عندما كانت أسعار النفط عالية.

في بيان وزارة المالية بشأن الميزانية لعام 2016 ما يطمئن حيث إن البيان أوضح أنه بناء على التوجيهات السامية الكريمة لإجراء إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية شاملة، وللعمل على تقوية وضع المالية العامة وتعزيز استدامتها ومواصلة اعتماد المشاريع التنموية والخدمية الضرورية للنمو الاقتصادي، سيتم العمل على رفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي، ومن ذلك مراجعة المشاريع الحكومية ونطاقها وأولوياتها لتراعي جودة وكفاءة التنفيذ من جهة، وتتوافق مع الأولويات والتوجهات والاحتياجات التنموية والمتطلبات المالية والتمويلية من جهة أخرى، إضافة إلى رفع كفاءة الإنفاق التشغيلي للدولة ويتضمن ترشيد نفقات الأجهزة الحكومية وتوظيف الاستخدام الأمثل للتقنية في تقديم الخدمات الحكومية، وتطوير وتفعيل آليات الرقابة.

من الأمور المطمئنة في البيان تطوير أهداف وأدوات السياسة المالية بما في ذلك تحديد قواعد تتسق مع معايير الشفافية والرقابة والحوكمة، وتراعي الأهداف والتوجهات الاقتصادية والتنموية على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

ومن ذلك التوجه لطرح مجموعة من القطاعات والنشاطات الاقتصادية للخصخصة، وتذليل العقبات التشريعية والتنظيمية والبيروقراطية أمام القطاع الخاص، وإصلاح وتطوير الأداء الحكومي، وتحسين مستويات الشفافية والمحاسبة، وتعزيز بيئة الاستثمار بما يساهم في إيجاد فرص عمل جديدة في القطاع الخاص ويوفر فرصا للشراكة بين القطاعات المختلفة: العامة، والخاصة، وغير الربحية، ورفع القدرات التنافسية للاقتصاد الوطني وتكامله مع الاقتصاد العالمي.

أما فيما يتعلق بإيقاف الإسراف في استهلاك الموارد والطاقة رغم الندرة فلا شك أن القرارات التي صدرت متوافقة مع نداء الاقتصاديين بضرورة معالجة ذلك، وجاء توجه الحكومة متسقا معها حيث أوضح البيان أن الحكومة تتجه لمراجعة وتقييم الدعم الحكومي ومن ذلك دعم المنتجات البترولية والمياه والكهرباء وإعادة تسعيرها بهدف تحقيق الكفاءة في استخدام الطاقة والمحافظة على الموارد الطبيعية وإيقاف الهدر والاستخدام غير الرشيد، والتقليل من الآثار السلبية على المواطنين متوسطي ومحدودي الدخل، وتنافسية قطاع الأعمال.

انطلاق ورش عمل التحول الوطني ومن ثم إعلان الميزانية بهذه التوجهات الإيجابية تجعلنا مطمئنين إلى أن الأمور تتجه في هذه الظروف الاقتصادية غير المواتية في المسار الصحيح، وأن الحكومة - رعاها الله - جادة في معالجة التشوهات الاقتصادية. ولا شك أننا كمواطنين سنكون من الداعمين لتلك التوجهات وكلنا ثقة بأن الحكومة ستلعب دورا كبيرا في الحد من الفسادين المالي والإداري لرفع كفاءة الإنفاق العام ولزرع الثقة في نفوس المواطنين.

ختاما، رغم أن كثيرين يرون في انخفاض أسعار النفط وما ترتب عليه من قرارات ترشيدية مشكلة، إلا إنني أرى في ذلك فرصة كبيرة لشحذ العقول والهمم للاستثمار الأمثل لكل مواردنا وعلى رأسها الموارد البشرية للتحول من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاديات السوق، ومن إنتاج الحقول إلى إنتاج العقول، ولا شك أن حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان عازمة على تحقيق ذلك.