مجتمع » حريات وحقوق الانسان

إعدام الشيخ النمر: الحاجة السعودية إلى المراجعة

في 2016/01/18

حسن منيمنة- معهد واشنطن-

لا شك أن المملكة العربية السعودية تواجه وضعاً حرجاً. فمع الانسحاب الجلي للولايات المتحدة من موقعها القيادي التاريخي في الشرق الأوسط، ومع انشغال كل من مصر وتركيا بهموم داخلية تحدّ من قدرة كل منهما على تولي المسؤوليات على مستوى المنطقة، وفي مواجهة تصعيد إيراني استفاد من الاتفاقية الدولية لافتراض إطلاق يده في أكثر من دولة، تجد المملكة نفسها مضطرة لخوض التدخلات والمواجهات والاحتواءات المكلفة في الأرواح والأموال، بشكل مباشر كما في البحرين واليمن، أو بشكل غير مباشر كما في سوريا. وإذا أضيف إلى هذه المعضلات الخارجية الهم الأمني الداخلي المتمثل بالحركات العنفية القطعية والتي لا تزال تشكل خطراً آنياً، والواقع الصعب الذي نتج عن تقلص الواردات مع انخفاض أسعار النفط، والغموض الذي يكتنف انتقال السلطة داخل المملكة من جيل أبناء الملك المؤسس إلى الأجيال التالية، يتبين مدى الدقة التي تواجهها الرياض في رسم سياسة تحفظ البلاد من المخاطر التي تعصف بها.

وليس من المبالغة التأكيد على أن نجاح المملكة في ضبط هذه الأوضاع المعقدة المتداخلة هو لصالح الاستقرار في عموم المنطقة، بل العالم بأكمله. فالمسؤولية التي تتحملها الرياض نيابة عن الأسرة الدولية تتطلب الدعم والتأييد من مختلف الأوساط المعنية بهذا الاستقرار، دون أن يتحقق حتى اليوم القدر المطلوب لذلك.

إلا أن كل هذا، على أهميته وخطورته، لا يبرر إعدام الشيخ نمر باقر النمر، ولا يعفي المملكة من المسؤولية المعنوية والأخلاقية لقتله.

الشيخ النمر لم يكن رجلاً سهلاً. بل كان صاحب رؤية ملتبسة بين الفئوية والطرح الجامع، فهويته الواضحة كانت شيعيته، ودفاعه أولاً كان عن جماعته الشيعية في القطيف وعموم الإحساء، ثم في البحرين. غير أنه لم يتراجع البتة عن إدراج مواقفه هذه في سياق دعم الانتفاضات المحقّة للشعوب. ومن هنا فإنه قد تميّز عن العديد من الشخصيات الدينية والسياسية الشيعية في إدانته الصريحة والمتكررة للنظام الحاكم في دمشق. وقد اعتمد النمر في قراءته للأحداث، وهو الخمسيني، منظومة تحليلية تبدو مستقاة من الأفكار التي تداولها أبناء جيله، وإن تلوّنت بمفردات إسلامية. فالثالوث الذي عاداه جيل النمر في العقود الماضية كان الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، وهي في مصطلح النمر الاستكبار العالمي والاستبداد المحلي والكيان الصهيوني. ومن على منابره، أشبعها جميعاً بالنقد والطعن، وخصّ منها الأسرة المالكة في الرياض بعبارات قاسية.

والواقع الذي لم يصل النمر إلى حد الإقرار به هو أن المملكة السعودية قد تجاوزت ما كان قد صدر بشأنها من توقعات حول هشاشتها واقتراب زوالها، إذ تمكنت الأسرة المالكة من إرساء نظام سياسي يلقى قبولاً واسع النطاق في أراضيها. فتوصيف النمر للسعودية جاء في العديد من الأحيان تعسفياً في إجماله. أما إذا ما نظر إلى التفصيل الذي عاشه النمر شخصياً، كشيعي في السعودية، فإنه لا يمكن إهمال كلامه بالكامل. فلا شك أن جزءاً هاماً من الاستقرار بالمملكة قد تمّ من خلال التعايش بين الأسرة المالكة والمؤسسة الدينية. وفي حين أن السلفية القطعية التي تعتمدها هذه المؤسسة تصل في أحكامها إلى تكفير الشيعة واعتبار شعائرهم من الشرك، فإن الأسرة المالكة قد تمكنت من تحقيق قدر من الاحتواء أتاح المجال لمساحات من التنفس الاجتماعي والاقتصادي للشيعة من أهل البلاد. وأمل العديد من هؤلاء، من الموالين ضمناً لوطنهم، هو أن الإتاحة سوف تتطور إلى إنصاف. ولكن انتظار الانصاف أخذ يطول.

وقد يكون الأثر الأكثر بقاءاً لنمر النمر هو «عريضة العزة والكرامة» والتي تقدم بها للحاكم الإداري للمنطقة الشرقية عام ٢٠٠٧ والتي طالب بها جهاراً بالإنصاف على مختلف الأصعدة، وصولاً إلى إقرار مساواة المذهب الشيعي بمذاهب أهل السنة والجماعة المعتمدة في المملكة.

ليس مستغرباً، في أجواء تنامي القطعيات المتناطحة المنتمية إلى الشيعة والسنة في المنطقة، أن تتآكل مكاسب شيعة السعودية وتتراجع مواقعهم، وليس مستغرباً بالتالي أن يزداد خطاب نمر النمر حدة، بل أن يقع بين الفينة والأخرى في سجاليات مذهبية. ولكن نمر النمر حافظ على موقفين، الأول الإصرار على سلمية الحراك الشيعي في السعودية والثاني على إدراجه في سياق الانتفاضات الشعبية في المنطقة. فحين قررت المحكمة السعودية، وهي التابعة للمؤسسة الدينية، إعدام النمر تعزيراً، فإن قرارها لم يأتِ نابعاً من قراءة للمصلحة الوطنية بل من متابعة للرصيد الفقهي السلفي بصيغته القطعية التي تعتبر نقد ولاة الأمر بغي وخروج عن الطاعة. رأي المحكمة هو إذن تحظير الرأي المخالف، وفق قناعاتها المؤصلة، مع أن خلاف هذا التأصيل متحقق في الفقه الإسلامي. أما حين وافقت الحكومة السعودية على الإعدام ونفذته، رغم تعارضه مع المصلحة الوطنية، فإن قرارها هو فعل سياسي يبدل المعادلة القائمة والتي كانت تقول بأن الرأي للمؤسسة الدينية فيما الأخذ به أو عدمه للسلطة السياسية. إن ذلك هو تسليم يؤسس لشدّة جديدة كانت الدولة السعودية تسير باتجاه الابتعاد عنها. والثمن الفوري لهذه الشدة هو تأزيم العلاقة مع هذا المكوّن السعودي الهام، أي السكان الشيعة، والذين يزداد عليهم التضييق من بني جلدتهم، فيما تواصل إيران سعيها إلى استقطابهم.

نمر النمر قتل مظلوماً، شهيداً للكلمة والرأي، شهيداً للحرية وللعدالة، وشهيداً للسعودية التي لم تنصفه إن هي شاءت أن تكون وطناً لجميع مواطنيها. ومقتله يترك الأسى في قلوب من يثمّن مبدأ أن الكلمة تواجه بالكلمة لا بالسيف، في كل أنحاء العالم، فموته ليس مسألة عرضية أو شأناً داخلياً وحسب. لا اعتبار طبعاً لما تقدم عليه حكومة إيران، المتورطة بدماء بريئة دون حدود، من توظيف نفاقي لمقتله لصالحها. ولكن ما عدا ذلك، فإنه من صالح السعودية أولاً والمنطقة والعالم تالياً أن يجري تصحيح العلاقة بين الشيعة وسائر مكونات المجتمع السعودي، وأن تجري مراجعة هذا الخطأ الشنيع الذي أودى بحياة رجل صادق ومسالم، مهما كان مضمون قوله، من دون وجه حق.